أين ذهبت وعوده كلّها؟ ماذا نفعل نحن الآن؟

متفرقات

أين ذهبت وعوده كلّها؟ ماذا نفعل نحن الآن؟

 

 

 

 

هو اليوم الأوّل، يوم الأحد، يوم قيامة السيّد من بين الأموات. هو يوم الظّهور لمريم المجدلّية وللنّساء عند القبر. هو يوم الأنوار في أورشليم، الأنوار المشعّة من خارج القبر. ولكنّه يوم الخوف والشّك، يوم اليأس والألم لتلميذين يُغادران أورشليم بينما "النّور يخفت واللّيل قد أشرف على الحلول".

 

 

أنوار قيامة السيّد في أورشليم لم تبلغ القلوب الخائفة. يسيران، يتحادثان في كلّ ما حصل، علّ أحدهم يستطيع الإجابة: أين ذهبت وعوده كلّها؟ أين هي معجزاته التي كان يصنعها؟ ما الّذي حصل؟ ماذا نفعل نحن الآن، وقد تركنا كلّ شيء وتبعناه؟

 

 

 

هو ليل الإيمان يهبط على القلوب الجريحة، يملأها الخوف والضياع. لا أمل، لا رجاء، أحلامهم كلّها تبخّرت، فمعلّمهم موضوع في القبر، والكون بأسره ضدّهم. 

 

 

ماذا يفعلان؟ أيهربان، أم يعودان أدراجهما إلى مدينة شهدت على تبدّد رجاء التلاميذ؟ الرّجاء اضمحلّ، والوعود تبخّرت، لقد أخطأوا منذ البداية، وثقوا به، فخذلهم، تركهم وحدهم في عالم يريد الآن هلاكهم؟ 

 

 

 

 

لقد انتهى كلّ شيء، لم يتمّ كلّ شيء! ألم يقل هو على الصّليب إنّ كلّ شيء قد تمّ؟ لم يعد لحياتنا هدف بعد الآن، لقد وضعنا به ثقتنا، فتركنا وحدنا! أين هو الآن؟ ألم يقل أنّه سوف يكون معنا؟ ألم يقل أنّه والآب واحد؟ ألم يقل أنّ الله قد أعطاه الرّسل هو لم يفقد منهم أحد؟ كيف لا وقد تركنا تحت رحمة رؤساء المجمع يفتّشون عنّا ليهلكونا! كيف أمكن أن نكون بسطاء، كيف سمحنا لذاتنا أن نؤمن أنّ ابن الناصرة سوف يعطينا الخلاص!. 

 

 

 

 

 

يتكلّمان يتحادثان ويهربان، يريدان الإبتعاد عن مدينة احتضنت كلّ آمالهم، يريدان أن ينسيا كلّ شيء، يريدان أن يعودا إلى حياة انتزعهما منها يسوع الناصريّ، ليعدهما بنصيب أفضل. 

 

 

 

يريدان العودة إلى صيد السَّمك بعد أن حصلا على الوعد بأن يُصبحا صيّادي بشر، يعملان على خلاص العالم من خلال المسيح المخلّص. فماذا علّهما يفعلان الآن، والمخلّص ليس معهما؟ 

 

 

 

إنجيل تلميذيّ عمّاوس (لو 24 /13-35) هو إنجيل كلّ تلميذ خائف، هو قصّة كلّ قلب جريح، هو صورة سقوط التلميذ في الشّك، واليأس وفقدان الأمل. هي قصّتنا نحن أيضًا، نهرب خارج أورشليم، نخاف الألم، نخاف الخطر، نظنّ أن وعود الرّب لن تتحقـَّق وأنّ كلّ ما قاله لنا كان وهمًا.

 

 

 

هي قصّتنا نحن اليوم حين نظنّ أنّ شرّ العالم هو أقوى من حضور المسيح. هذا الإنجيل هو مختصر سيرة حياتنا: نعجز عن رؤية أنوار القيامة، نهرب لأنّ ليل اليأس والشّك أقبل، نظنّ أن المسيح قد تركنا، لا نلتفت إليه يسير إلى جنبنا، يريدنا أن نطرح عنّا الشّك ونعود إليه، فهو حاضر، وهو يعطينا الخلاص. 

 

 

 

لقد سمعا "بعض النسوة تخبرنَ أنّه قد قام وظهر لهنّ"، رغم ذلك هربا، فكيف يمكن أن يقوم ذاك الذي رأوه معذّبًا، مهانًا، مسمّرًا على الصّليب بين لصوص، مطعونًا بالحربة؟ كيف يقوم من وُضع في قبر ليس له، وأقفلوا قبره بصخرةٍ ثقيلةٍ ثقل يأسهم وخوفهم؟ 

 

 

 

كيف يمكننا أن نؤمن نحن اليوم بالقيامة وكلّ ما هو حولنا يبشّرنا بالموت والعنف والدّمار؟ كيف أؤمن بالقيامة حين أرى صديقـًا يموت، وقريبًا يعاني مرضًا لا علاج منه؟ كيف أؤمن بالقيامة أنا، وفي عالمي آلاف الأطفال مشرّدين، جائعين، مستغلين؟ كيف أؤمن بالقيامة والحروب تملأ الكون، والخصام يعمّ كلّ العالم، وحولي عنف ودمار وإرهاب وطنين السّلاح يفتك بالأبرياء. 

 

 

 

نعم، خوفنا من القيامة هو أكبر من خوفنا من موت يسوع، فيسوع الميت يسهل دفنه، نضعه في زاوية ما من زوايا قلوبنا، ندفنه هناك، نخفيه في قعر نفوسنا، ونحيا حياتنا. ولكن منطق قبول المسيح القائم من بين الأموات هو صعب، لأنّه يتطلّب التزامًا، وإيمانًا وتضحية، صلاةً وسهرًا وعطاء.

 

 

 

قبول المسيح القائم يعني أن أقبل في حياتي منطق القيامة: أرفض العنف وحضارة الموت، وأعلن منطقـًا لا يتلاءم ومنطق ما يحيط بي. منطق القيامة يجعلني أبدو مجنونًا أمام الآخرين، مجنونًا لأنّي أحيا المصالحة مع الذات ومع الآخرين، مجنونًا لأنّي أقبل المغفرة وأغفر لمن أساء لي، مجنونًا لأنّي أقف إلى جانب المحتاج والمريض والمتألّم، وأقول لمن يجد نفسه وحيدًا: لا تخف، فأنا بقربك، أحمل إليك يسوع القائم. مجنونًا لأنّي أؤمن أنَّ الخير لا بدّ أن ينتصر، وأنَّ الموت ما هو إلاّ إنتقال تليه القيامة. نعم، قبول منطق القيامة صعب عليّ، ومن الأسهل لي أن أترك يسوع مدفونًا في أعماق نفسي. 

 

 

 

 

ولكنّه حاضر، هو بقربي، يسير معي، يسألني، ويشرح لي. يفسّر لي الكتب ويكسر الخبز أمامي، يقول لي: أما كان عليّ أن أتألّم حبًّا بك؟ ألا ترى كم أحببتك؟ ألم تسمع الأنبياء يخبرونك أن سوف يأتي من يحمل خطيئتك، يرفعها عنك ويموت من أجلك؟ 

 

هو حاضرٌ معي كما كان حاضرًا مع تلميذي عمّاوس ذاك المساء، يقول لي: لا تخف الموت، لا تخف الشرّ الذي يحيط بك، لا تخف المرض فأنا قبلك حملت أوجاعك لأشفيك. لا تخف القبر فما هو إلاّ انتقال، لا تدع الظلم يفقدك الرّجاء، فأنا احتملت الظلم، حكموا عليّ كمجرم، أسلمت الرّوح بين لصيّن، وعلمت أن لا بدّ للآب من أن يحوّل الظلم إلى أمل، واليأس إلى رجاء، والموت إلى قيامة. 

 

 

 

 

 

 

لا تخف الإلتزام بمنطق القيامة، فمنطق القيامة وحده يشفي العالم، ويعطي السَّلام. كن رسول منطق القيامة، كن الشّمعة المنيرة ظلام العنف وقلّة العدالة. لا تقل، ماذا يمكن لشمعتي الصّغيرة أن تغيّر، فالنّور الّذي تحمله أنت هو نور القيامة الّذي دحرج الحجر الثقيل عن قبري وأنار العالم. لا تخف، فأنا معك. أما قرأت الكتب؟ 

 

لقد انفتحت أعينهم ذاك المساء عند كسر الخبز، عرفوا المسيح القائم الّذي كسر جسده من أجلهم. من يمكنه، سوى المسيح، أن يعطي حياته في سبيل من أعطوه الألم والموت؟ في كسر الخبز ذاك الأحد، أدرك التلاميذ ما لم يدركوا طوال الطريق: الجواب لم يكن جواب العقل والمنطق، بل جواب الحبّ الأسمى. 

 

الجواب كان المسيح ذاته يقول لهم: "كسرت الخبز من أجلكم، كسرت ذاتي حبًّا بكم، وهبتكم الدّم يغسلكم عند الجلجلة، وهبتكم الدّم يغفر خطيئتكم على المذبح، أنا أنا، في عليّة الأسرار، على صليب الجلجلة، في القبر الفارغ، في الكتب المقدّسة وفي الإفخارستيّا. أنا المسيح معكم، فما بالكم تقسّون قلوبكم ترفضون الإصغاء، لا تخافوا، دعوا رجاء القيامة ينتصر فيكم". 

 

 

 

 

الأب بيار نجم.