يدعونا يسوع ليكون لنا الفكر نفسه والمشاعر نفسها التي تملأ قلبه. وهذه هي دعوة حياتنا، فنحن نتبع يسوع لأنّنا نحبّه، ونحبّه لأنّه انحنى علينا وأحبّنا ونحن خطأة (روم 5: 8؛ 1يو 4: 10). فأفاض علينا روحه القدّوس، روح الحقّ والفرح والحياة، وجعلنا له أخوة أحبّاء، وأبناء لأبيه نبع النّور والقداسة.
وفي حياتنا، أدركنا أنّ يسوع أحبّنا إذ كنّا أعداءه، نفضّل الظلمة على النّور، والخطيئة على النِّعمة، ولكنّه سار بجانبنا كالخادم الأمين والصَّديق الوفيّ، وسخّر نفسه ليمضي في طريقنا حيثما ذهبنا، وخلع رداءه ليستر عرّينا وجهلنا، فأنفتحت عيوننا على فجر حبّه العظيم، وصرنا فيه خلقـًا جديدًا، إذ صالحنا مع الآب وجعلنا شهودًا للمصالحة (2كو 5: 19).
تلك هي الخبرة المؤسّسة في حياتنا، ولا صخرة غيرها نشيّد عليها وجودنا. وبوسع كلّ واحد منّا أن يقول: "كنت ميّتًا فعشت، كنت ضالاً فوجدت، كنت لا شيء فأعطاني أبي كلّ شيء، كنت فقيرًا ذليلاً فصرت غنيًا بفضل من صار فقيرًا من أجلي، وهو من مات وقام من أجلي".
لا يمكن أن نكون في الحياة إلا إذا عشنا بروح المسيح، ولا يمكن أن نعيش إلا إذا كنّا في الحبّ الذي كشفه لنا يسوع. ويعني هذا عمليًّا وواقعيًّا أن نبادر بالحبّ وأن نعطي بسخاء حتى يتدفّق روح الحياة في قلبنا ونظل أحياء. لا حياة إلا بالحبّ، ولا حبّ إلا انحناءً أمام المحبوب. هكذا فعل يسوع فرفعه الله الآب وأعطاه الاسم الذي يفوق كلّ إسم (فل 2: 9)، وإذا أردنا الحياة صرنا في الحبّ، حتّى لمن لا يحبّوننا ويحتقروننا ويضطهدوننا.
قد يقول بعضهم إنّ هذا كلام عسير، من يطيق أن يسمعه، ومن يقدر أن يطبقه! وهم محقـُّون، لأنّه ليس كلامًا يعتمد على حكمة البشر، ولا يتّفق مع القيَم السَّائدة من حولنا، بل قد يخجل البعض الآخر من إعلانه، ويفضلون طيّ هذه الصفحة من الإنجيل مدّعين أنّها ليست لزمننا ولا لمجتمعنا. بالفعل لا يمكن أحدٌ أن يقبل هذه الكلمات إلّا إذا كان روح الله فيه، وإلّا إذا كان اختبر بعمق محبّة الله ومغفرته وحنانه. نحن أحياء لأنّنا تذوّقنا حبّ يسوع لنا، ومغفرته تقيمنا من موتنا كلّ يوم. ولن يحيا الناس إلا إذا عرفوا محبّة الله التي تفوق كلّ وصف، ونحن شهود هذه المحبّة.
لا يوجد طريقان للحياة، واحد نسلك فيه مع الأقرباء والأصدقاء، وآخر نتصرّف فيه بوجه مخالف مع الغرباء والأعداء. إذا أردنا الحياة، طلبنا نعمة الرّوح القدس من يسوع المسيح كيّ نحبّ البعيدين كمّا نحبّ القريبين، وأن نغفر لمن أساء إلينا كما يغفر لنا الآب، وأن نكيل للآخرين كما يعطي لنا الله في أحضاننا، كيلاً ملبدًا، مهزوزًا، فائضًا (لو6: 38).
إنّ العالم يموج بخطابات مختلفة عن آلهة يملأها الغضب من الناس، وتتوعدهم بالعذاب والانتقام، وفي الوقت نفسه تصنّف البشر إلى أصدقاء وأعداء، أصحاب فضيلة وأرباب شرور، من يملك الحقيقة ومن يحيا في الضلال. وهذا منطقيّ، فإذا كان ربّ الكلّ يرحم بعضهم ويرذل الآخرين، فالعالم منقسم بالضرورة، والخلافات والمواجهات هي مصير البشر، وقد أصبحوا فريسة روح الكراهية والإقصاء والعنف.
إنّ الربّ هو الرّوح (2قو 3: 17)، وحيث روح الربّ فهناك الحياة، والوحدة بين الناس، والسَّلام بين البشر، لأنّه يفيض على الجميع نعمه وبركته. إنّ الله هو مصدر كلّ أبوّة في السَّماء والأرض، ولا يستطيع أن ينكر نفسه، فهو حبّ يفيض على كلّ أبنائه، الأخيار والأشرار.
وروح الربّ يسكن قلوبنا، وبنا ومعنا يخلق عالمًا جديدًا، عالمًا إنسانيًّا، يتذوّق فيه الناس طعم الحياة، لأنّهم وجدوا من يحبّهم في اختلافهم وتميّزهم، وتقابلوا مع من يرحمهم ويقبلهم في ظلمة حياتهم، وعرفوا معنى المغفرة والمصالحة.
إنّ فرح حضور الربّ في القلب، لا يصنع ضجيجًا ولا يدري به العالم، هو روح نور وحياة يلمس عمق الإنسان ويغيّر من نظرته إلى ذاته والآخرين، فيجد نفسه جميلاً في عيون الربّ، ويكتشف جمال البشر المخفي في أرضهم كالكنز المدفون وهم قد لا يدرون به ولا يعرفونه.
وهكذا ينتقل الرُّوح من إنسان إلى إنسان، يملأهم بحضور الربّ المحيي والشّافي، ويجعلهم يقبلون ذواتهم بكلّ ما فيها من جمال وقبح، وأن يتصالحوا مع تاريخهم بأحداثه الحلوة والمؤلمة، فيقبلون بعضهم بعضًا، ويغفرون بعضهم لبعض.
إنّ حبّ يسوع يدخلنا في عمق قلب الله أبيه، فيملأ حياتنا نورًا وفرحًا وسلامًا، ويخلع منّا قلب الحجر ويضع في صدورنا قلبًا من لحم، قلبًا إنسانيًّا، وهذا هو عمل الله فينا ومن خلالنا في العالم. إنّه لسرّ عجيب، سرّ حضور الله في قلبنا وإنسانيّتنا، سرّ حبّه لنا ولكلّ إنسان.
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ