بنتيجة سماع كلام الله، الذي ألقاه الربّ يسوع على الجمع الغفير، تولَّد الإيمان في قلب أربعة رجال، فأتوه بمخلّع، وكلّهم رجاءٌ بأنّه سيشفيه.
بفضل هذا الإيمان الوطيد، ولأنّهم لم يستطيعوا الوصول به إلى يسوع نَبَشوا السّقف، ودلّوا المخلّع مع فراشه إلى أمامه.
فإذ رأى الرّبّ إيمانهم شفى الرّجل من الشّللَين، الرّوحي بغفران خطاياه، والجسدي بإعادة المشي إليه. إنّنا نلتمس من الله مثل هذا الإيمان المترجم بأعمال المحبّة والرّحمة.
فالصّوم الكبير هو زمن السّماع لكلام الله، الذي يولّد الإيمان، ويحملنا على أعمال المحبّة، إلى جانب الصّيام وتوبة القلب إلى الله.
يمثّل الرّجال الأربعة الذين حملوا مشلول كفرناحوم إلى يسوع، الكنيسة التي تحملنا في صلاتها، وتهدينا بكلمة الإنجيل وتعليمها، وتقدّسنا وتشفي نفوسنا بنعمة الأسرار، وتجدّدنا بعطيّة الرّوح القدس. فقد جعلها المسيح الإله به "العلامة والأداة للإتّحاد بالله، ولوحدة الجنس البشري كلّه" (الدستور العقائدي "في الكنيسة"، 1). وجعلها "أداة الخلاص الشّامل".
ويمثّل الرّجال الأربعة جماعة المؤمنين التي تلتقي في كلّ يوم أحد، وهو يوم الرّبّ، فتجدّد بواسطة المشاركة في الليتورجيّا الإلهيّة أواصر الأخوّة والتّعاون والتّضامن في نشاطات الرّعيّة ومشاريعها.
لا يمثّل الرّجل المشلول فقط كل شخص يعاني من شلل جسدي، بل وكل مصاب بشلل روحي بسبب عيشه في حالة الخطيئة الدّائمة؛ أو بشلل معنوي بسبب حالة الفشل والحزن والظّلم وامتهان الكرامة وانتهاك الحقوق؛ أو بشلل اقتصادي مثل شعبنا اللبناني اليوم، ولا سيّما ثلثه العائش تحت مستوى الفقر، ومثل الثلاثين بالمئة من شبابنا المحرومين من فرص العمل والإنتاج. وإنّنا لا ننفكّ نطالب المسؤولين السّياسيين بإجراء نهوض اقتصادي في كل قطاعاته، والحدّ من الفساد المستشري، وإيقاف الهدر في مشاريع يمكن انجازها بكلفة أقلّ ومردود أكبر مع تجنّب عمولات الأرباح الخاصّة، وإجراء الإصلاحات المطلوبة دوليًا وداخليًا مثل حلّ أزمة الكهرباء في ضوء مشاريع توفّر على الخزينة وتستحق الإعتبار. وكم يؤسفنا أن يتبارى المسؤولون عندنا في تراشق التّهم، وانتهاك كراماتهم بشكلٍ متبادل، غير آبهين لما تترك من أثرٍ سلبي في أجيالنا الطّالعة.
"رأى يسوع إيمان الرّجال الأربعة" (مر2: 5). رآه في مبادرتهم وجرأتهم وفعلهم. إيمان صامت كلاميًّا وناطق بالعمل النّابع من القلب. هذا هو الإيمان الحقيقي الذي يُرضي الله. وقد نبّهنا الرّبّ يسوع: "ليس مَن قال لي: يا ربّ، ياربّ، يدخل ملكوت السّماوات، بل مَن يعمل بمشيئة أبي الذي في السّماوات (متى 7: 21). يقول القديس يعقوب الرّسول: "كما أنّ الجسد بلا روح ميت، كذلك الإيمان بلا أعمال ميت" (يع2: 26).
فمكافأةً لإيمانهم، بادر يسوع إلى شفاء المقعد من شلله الرّوحي أوّلًا بالقول: "يا ابني، مغفورةٌ لك خطاياك"، ثمّ من شلل جسده: "قُمْ احملْ سريرك واذهبْ إلى بيتك" (الآيتان 5 و11).
أجرى يسوع شفاء المخلّع كبرهان على سلطانه أن يغفر الخطايا. وهو سلطان سلّمه إلى الكنيسة عبر الكهنوت. ففي مساء أحد قيامته سلّم رسله، كهنة العهد الجديد، وخلفاءهم، سلطان مغفرة الخطايا، عندما "نفخ فيهم وقال: خذوا الروح القدس. مَن غفرتم له خطاياه تُغفر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنع عنه" (يو20: 22-23). وبهذا كرّس الربّ يسوع سرّ التوبة. ومنح سلطان الحلّ للكاهن، دون سواه. فلا يمكن بالتالي للمؤمن أن يتصالح مع الله مباشرة، بل فقط من خلال "سلطان الكهنوت" و"سلطان الحلّ".
كان شفاء المخلّع علامة ذات رموز تختصّ بمفاعيل سرّ التوبة فينا.
فقد استعمل الربّ يسوع ثلاث كلمات: قُمْ! احملْ! إمشِ.
لفظة "قُمْ" مرتبطة بالقيامة، إنّها خلق جديد. بشفائه أعاد إليه يسوع كلّ قواه المفقودة. لقد خلقه من جديد. هكذا تفعل نعمة الغفران في التّائب الحقيقي بواسطة سرّ التّوبة. يُعطى قلبًا جديدًا وروحًا مستقيمًا، كما نصلّي في صلاة المزمور: "قلبًا نقيًّا أخلقْ فيّ يا ألله، وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي" (مز51: 10).
بكلمة "احملْ" حرّره من قيود الضّعف والحاجة. هكذا تفعل فينا نعمة سرّ التّوبة: تحرّرنا من قيود الأميال والتجارب التي تأسرنا، وتُضعف قوانا، فنصبح منقادين بها وإليها.
بكلمة "إمشِ" فتح الربّ يسوع أمامه طريقًا جديدًا يمشيه. هكذا في سرّ التوبة يفتح أمامنا المسيح الفادي طريقًا جديدًا مستقيمًا لنسلكه على أنوار الروح القدس، مع الله والذات والناس.
فليخشع كل واحد منّا أمام المسيح، طبيب الأرواح والأجساد، ملتمسين نعمة الشّفاء ورافعين نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.