آخر كلمات لإنسان يموت، دائمًا تكون مؤثّرة، كلمات توضّح مَن هو الذي يموت. وتوضّح، لحدّ ٍ كبير، كيف عاش حياته؟ تلك اللّحظة، لحظة الموت، هي لحظة حياة عميقة، حياة بمعنى الكلمة. في تلك اللّحظة يرى الإنسان أمامه الحقيقة كلّها ؛ يرى الموت، ومن المحتمل أنّه لم يرغب أبدًا أن يراه. أمّا الآن فهو مُجبر أن يراه، لحظة حياة حقيقيّة وفعليّة. للبعض هي بداية الحياة، فالقدّيس أغناطيوس الإنطاكي يقول: عندما أموت سأحيا. وتريزيا الأفيليّة تقول: أموت كي لا أموت، أموت لأحيا. لكن ماذا قال المسيح؟
في المرة السّابقة رأينا أنّ كلّ شيء بالفعل قد تمّ، قد وصل إلى غايته. هكذا يقول المسيح بكلمته السادسة: "تمّ كلّ شيء" (يو 30:19) فماذا يمكن أن يُقال بعد ذلك؟ بعد أن تمّ كلّ شيء؟ شيء واحد يبقى: "يا أبتِ، في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46). تلك هي كلمة المسيح الأخيرة. وهي آية من المزمور 31، الذي يتكلّم عن ثقة المرنّم، في وقت الموت، بأمانة الرّبّ وخلاصه.
المزمور يقول: "أيّها الرّبّ، في يديك أستودع روحي" (مز 31: 6). لكن المسيح يقول: "يا أبتِ". لحظة موت المسيح هي إعلان عمّن هو في العمق. هي لحظة إعلان مجده، أي لحظة إظهار مَن هو بالفعل. هو إبن، بالأحرى الإبن. إبن لآب، وهذا الآب هو الرّبّ. هذا هو المسيح، صورة الإنسان الجديد، إبن للآب.
يسوع المسيح بعد أن أتمّ كلّ شيء، وأوصله إلى غايته وإلى هدفه، يسلّم الرّوح في يديّ أبيه. وهنا نستطيع أن نتحدّث كثيرًا عن ثقة المسيح بالآب، وعن عمق أمانة المسيح وحبّه لأبيه. لكن هناك أيضاً شيء آخر.
بعد أن تمّ كلّ شىء، لا يبقى للإنسان إلّا أن يُسلّم روحه. فالحياة الأرضيّة ما هي إلّا إتمام شيء ما. إذا تمّ بالفعل لا يبقى إلّا أن تُسلَم الرّوح لأبيها. الحياة ليست شيئًا يجب أن يُستفاد منه للأقصى ونحيا أطول السّنين المُمكنة، مع مشاكل أو من غيرها، مع مرض أو دونه. الحياة هي إتمام رسالة، ومتى تمّت هذه الرّسالة، تُسلم الرّوح تلقائيًّا. حتّى الموت المُفاجىء، شاب في الثلاثين يموت دون سبب، لماذا؟ إمراة تترك أطفالها وتموت لماذا؟ طفل وحيد لأبَوَيه يموت، لماذا؟ رجل يبقى لبعد المئة ويموت، لماذا؟
بعد أن تمّ كلّ شىء، أسلم الرّوح. الحياة رسالة وحينما يتمّمها الإنسان حسب مشروع الله تنتهي. وهنا السؤال: هل المرأة التي تركت أطفالها وماتت، أتمّت رسالتها مع أنّها لم تكمل تربية أطفالها؟ وإلاّ فلماذا ماتت؟ كيف يسمح الله أن يموت شخص قبل أن يُتمّم فيه كلّ شيء؟
السؤال الحقيقيّ ليس لماذا الموت. السؤال الحقيقيّ هو: ما هي رسالتي؟ لماذا أحيا؟ كي أتزوج؟ كي أكون كاهنًا؟ حتى أربّي الأبناء؟... السؤال إذًا ليس لماذا يموت الإنسان؟ السؤال ليس لماذا يموت ذلك الشاب الصّغير أو تلك الأمّ؟ السؤال الحقيقيّ: لماذا يحيا الانسان، وما هي رسالته؟
أتمّ كلّ شيء فقال: "يا أبتِ، في يديك أستودع روحي".
إذاعة الفاتيكان.