القدّيس أنطونيوس الكبير قراءات مختلفة

صلوات

القدّيس أنطونيوس الكبير قراءات مختلفة




اليوم الأول:


1 - قراءةٌ من القدّيس أثناسيوسَ الإسكندريّ (+373)


دعوةُ أنطونيوس


       كانتِ الدّنيا تبتسِمُ لأنطونيوسَ وتَعِدُهُ بِمُستقبلٍ حسنِ الطالع، وقد رأى نفسَهُ مُديراً لأشغالِ عائِلتِهِ، وبين يَديهِ شقيقة ٌ واحدةٌ حديثة ُ السِّنّ، ولدَيهِ ثروَة ٌ عظيمَة ٌ جِدّاً. ولو أنَّ غيرَهُ كان على ذلك الغِنى الوفير، لاحتَسَبَ ذاتَهُ سَعيداً لأنّهُ يَملِكُ مالا ً جزيلا ً في عُمرٍ تخدعُهُ فيهِ ملذ َّاتُ الدُّنيا. وبما أنَّ أنطونيوسَ قد نشأ في مدرسةِ الإنجيل، وعرَفَ منذ الصِّغَرِ أنْ يُعطيَ كُلَّ شيءٍ حقّهُ مِن الاعتبار، لم ينظرْ إلى ثروَتِهِ إلّا بعينِ الإيمان، ولمْ يعتبرِ الأموالَ إلّا ذريعة ً لعملِ الخيرِ وتخفيفِ مصائِبِ الفقير. فرتَّبَ حالا ً أحسن تدبيرٍ إدارَة أشغالِهِ البيتيَّة، واعتنى في مُتابعةِ تربيَةِ أختِهِ أحسن تربيّة.


       وبعدَ مضيِّ سِتّةِ أشهُر، أتى أنطونيوسُ الكنيسَة. وعِندَ تِلاوَةِ الإنجيل، سَمِعَ ما قالهُ سيِّدُنا لهُ المَجدُ للشّابِّ الغنيّ: "إنْ شئتَ أن تكون كامِلا ً، إمضِ فبِعْ كُلَّ مُقتناكَ وأعطِهِ للمساكين، وهَلـُـمَّ فاتبعني، فيكون لكَ كنز ٌ في السَّماء" (متى 19/21). فأثـَّر هذا الكلامُ في عقلِهِ تأثيراً بليغاً، وخالَ لهُ أنّهُ هُوَ ذلكَ الشَّابُّ الذي تكلّمَ عنهُ الإنجيل؛ وأخذ يتأمَّلُ طويلا ً في ما سَمِعهُ.


وتَمَثـَّلَ لهُ إذاكَ الخطرُ الذي يتهدَّدُ في العالمِ الشُبّان الذين قد فقدوا مِثلهُ مُساعدَةَ والديهِم، وأصبَحوا مُنقادين بِكُلِّ سهولةٍ إلى الهلاكِ والسُّقوطِ في لـُجَجِ بحرِ هذا العالم الخدّاع. فتذكَّرَ أيضاً ما قيلَ في هذا الإنجيلِ نفسِهِ عنِ الرُّسُلِ الذين تَركوا كُلَّ شيءٍ ليتبعوا المسيح، والذين جَمعوا كنوزاً جَمَّة ً تُؤهِّلـُهُم لنوالِ الأبديَّة، كنوزاً لا يأكلـُها دودٌ ولا يسرِقُها سارِقٌ. وقد أثـَّر فيهِ مَثلُ المسيحيِّين الأوَّلين الذين باعوا كلَّ ما لهم، وألقوا عندَ أقدامِ الرُّسُلِ ثمَنَهُ. فعزمَ حالاً على اقتِفاءِ آثارِهِم، وطرْحِ كُلِّ الآمالِ التي كان يترصّدُ تَحقيقها في العالم، وعلى عدَمِ التفكُّرِ في المُستقبلِ بغير اللهِ تعالى.



اليوم الثاني:


2- قراءةٌ من القدّيس أثناسيوسَ الإسكندريّ (+373)


كلامُ الربِّ لأنطونيوسَ كوكبِ البرّيّة


       تَقوَّ يا أنطونيوس! أنتَ هو الشّجرةُ التي لا يُمكِنُ أنْ تقلعَها العواصِفُ مهما اشتَدَّت. ومِن الآنِ تُدعى كوكبَ البرِّيَّة. تشَجَّعْ أيّها الكوكب، فإنّكَ ستكونُ قُدوَةً للرُّهبانِ سُكّانِ البراري، لا بلْ أباً لهم ومُرشِداً ومعلّماً وقائِداً. وأقولُ لكَ يا أنطونيوس: إنَّ ذكرَكَ لا يُمحى مِن البرِّيَّةِ إلى الأبد، بلْ يتجدَّدُ يوماً فيوماً.

      

أيّها الكوكبُ المُنيرُ على كُلِّ المَسكونَة، إنَّ البراري ستمتلِئُ مِنْ تلاميذِكَ قبلَ مُفارقتِكَ هذا العالم، وسأمنحُكَ موهِبَة صُنعِ العجائبِ العَظيمَة، فتُحاكي بِكثرَتِها نجومَ السَّماء. أنّني أعدَدتُ لكَ جزاءَ جِهادِكَ، إكليلَ المجدِ الأبديّ. لا أهمِلُ دَعوتَكَ ولا اتخلّى عمَّن يَطلـُـبُ شفاعتَك. وكما أنَّكَ فارقتَ أختَكَ وكُلَّ أبناءِ العالم، وتَصَدَّقتَ بِكُلِّ مالِكَ وخرجتَ تارِكاً بابَ بيتِكَ مَفتوحاً، فإنّي أعطيكَ عِوَضاً عَنْ ذلك ما لمْ تَرَهُ عينٌ ولم تسمَعْ بهِ أذ ُنٌ ولمْ يخطـُر على قلبِ بشر.

     

  حينئذٍ ألبَسَهُ الرَّبُّ يسوعُ المسيحُ الإسكيمَ الملائِكيَّ بيدِهِ القديرَةِ وقالَ لهُ: إقبلْ يا أنطونيوسُ تاجَ النّعمَةِ إكليلَ المَجدِ مِنْ يدي، وسأتوِّجِكَ فيما بعدُ بالتّاجِ العظيمِ عندَ بلوغِكَ قمَّة الكمال.







اليوم الثالث:


3- قراءةٌ من القدّيس أثناسيوسَ الإسكندريّ (+373)


نصائِحُ انطونيوسَ لتلاميذه


       أوَّلُ شيءٍ يجبُ علينا المحافظة ُ عليه، هوَ أنْ لا يكون لنا جميعاً غيرُ قصدٍ واحد، وأن لا نتراخى قط ُّ في العزمِ المُقدّسِ الذي بدأنا به، وأن لا نَضيقَ ذرعاً عَنْ مُتابعةِ أشغالِنا، متى افتكرنا أنّهُ مضى علينا زمنٌ طويل، ونحنُ نمارِسُ حياةً قشِفة ً بهذا المِقدار. بلْ بالعَكس، يلزَمُ أنْ نزدادَ يوماً فيوماً نشاطاً كأنّنا بدأنا اليوم. لأنّهُ إذا قابلنا حياتَنا معَ الأجيالِ المُقبلةِ، نجِدُها قصيرةً جدّاً، وأنّها ليسَتْ إلّا دقيقة ً بالنسبَةِ إلى الأبديّة. فمتى قضينا ثمانين سنة ً في خِدمَةِ اللهِ في الوحدَة، فالزّمنُ الذي نملِكُ فيهِ مَعَهُ في السَّماء، لا تكونُ مُدّتُهُ قصيرةً كهذه. وعِوَضاً عن هذه السّنين القليلة، سنتمتَّعُ بِمجدِهِ مدى الأبديَّةِ كُلّها. فبعدَ أنْ نكون حارَبْنا على الأرض، لا نَرِث ُ الأرضَ بل السّماء. وبعدَ أنْ نترُكَ هذا الجسدَ المائِت، نسترجِعُهُ مُتَّشِحاً بثوبِ الخلود.

      

يا أولادي! يجِبُ علينا أن لا نَقنَطَ ولا نَمَلَّ، ولا نتصَوَّرَ أنّنا نفعَلُ كثيراً مِن أجلِ اللهِ، لأنَّ عذاباتِ هذهِ الدُّنيا، لا تُقاسُ بالنّسبَةِ إلى المَجدِ المُعدِّ لنا في الآخِرة. ولا يظـُنُّ أحدٌ مِنكُم أنّهُ تَرَكَ شيئاً كثيراً، إذا ترَكَ كُلَّ ما هُوَ لهُ: لأنّهُ إذا قابلنا كُلَّ الأرضِ معَ اتّساعِ السَّماء، فلا تَكونُ إلّا نُقطة ً مِنْ بحر. متى ترَكَ الإنسانُ بيتاً جميلا ً وأموالا ً وافِرة، يجِبُ عليهِ أنْ يَفتخِرَ ولا يأسَف، بلْ أنْ يعتبِرَ أنّهُ إذا لم يَترُكْ كُلَّ مَوجوداتِهِ ليأتيَ محلّا ً صالِحاً، فيُضطَرُّ أنْ يترُكها عِندَ المَوت.


ولهذا، علينا أن نَكون مُستَعِدِّين لِتَركِ كُلِّ شيءٍ عَنْ طيبَةِ خاطِر، رغبَة ً بِمَرضاتِهِ تعالى، لكي نحصَلَ على السّماء. ولِنُخمِدْ فينا كُلَّ شَوقٍ إلى امتِلاكِ حُطامِ الدُّنيا في هذا العالم: لأنَّهُ أيَّة ُ مَنفعةٍ مِن الحُصولِ على أشياءَ سنُغادِرُها ساعة الموت؟ إذاً، يجِبُ علينا أنْ نُحَصِّلَ ما يتبعُنا إلى القبر: كالفِطنةِ والعدالةِ والقناعَة، والقوَّةِ ومعرِفةِ الأشياءِ المُقدَّسَة، والمحبَّةِ وحُبِّ الفُقراء، والإيمانِ بيسوع المسيح، ووداعَةِ القلبِ والضِّيافة. فمتى ملكنا كُلَّ هذِهِ الصِّفات، فإنّها تُخوِّلنا أن نكون في مقرِّ الطوباويِّين، بين الوُدعاءِ ومُتواضِعي القلب.






اليوم الرابع:


4- قراءةٌ من القدّيس أثناسيوسَ الإسكندريّ (+373)

وصيّة ُ القدّيس أنطونيوس قبلَ مَوتِه

    

   أ ُصيبَ أنطونيوسُ بمَرضٍ خطير، فدَعا إليهِ اثنينِ مِن التلاميذِ الذين كانوا يَخدمونَهُ في شَيخوختِه، وقالَ لهُما: إنّني أرى أنَّ الرّبَّ يدعوني إليه، وحسبَ قولِ الكتاب: سأذهبُ لِمُلاقاةِ آبائِي. فأوصيكُم أنْ تسيروا في طريقِ التّوبَةِ والتّقشُّف، ولا تفقِدوا الثمارَ الرُّوحيَّة التي ربِحتُموها أثناءَ هذهِ الأعوامِ الطويلة. بلْ أقدِموا على حياةِ التّقوى، كما لو كُنتُم ناشِئين حديثاً. أثـبُـتوا في حرارتِكُمُ الرُّوحيَّة. إنّكُم تعرِفون فِخاخَ إبليس، ولكِنّكُم تعرِفون أيضاً مكان ضعفِه. لا تَخافوه. آمِنوا بيسوع المَسيح، ولا تكُن لكُم غايَة ٌ أخرى إلّا خِدمَتَهُ.

      

عيشوا يومَكُم كما لو كُنتُم ستَموتون فيه. إسهروا على نفسِكُم. واذكروا كُلَّ ما قُلتُهُ لكُم. إلى اللّقاءِ يا  أبنائي الأعِزّاء. إنَّ أنطونيوسَ ذاهِبٌ، لأنّهُ لا يُمكِنُهُ أنْ يبقى معَكُم.

      

وعندَما فرغ مِن هذا الكلام، تَمَدَّدَ أنطونيوسُ على فِراشِهِ، وارتسَمَتْ على ثغرِهِ ابتسامَة ٌ حُلوَةٌ كَمَنْ يستقبِلُ أحِبَّاءَهُ، وأسلمَ الرُّوح.







اليوم الخامس:


5- قراءةٌ من رسالةٍ عامّةٍ وجَّهها الأباتي بطرس قزّي للرّهبانيَّة اللبنانيَّة


روحانيّة القدّيس أنطونيوس


       ألصورةُ الشّامِلة التي تبقى لنا مِن القدّيسِ أنطونيوس، بعدَ نِهايَةِ قِراءَةِ حياتِه، هيَ تَدَرُّجُهُ في الكمال، تطوُّرُ اختِبارِهِ الرُّوحيّ، تَعمُّقُهُ المُتزايِد، يوماً بعدَ يوم، وسنة ً بعدَ سنة، في التَّعرُّفِ على المسيحِ والاتّحادِ به. تابَعَ أنطونيوسُ هدَفَ دعوَتِهِ مِن البدايَةِ حتّى النهايَة، ولمْ يُشِحْ بنظرِهِ مرَّةً عَنْ هذا الهدف. شَقَّ طريقَ اختيارِ الحياةِ الرُّهبانيَّةِ بِعيشِهِ حسَبَ مَنطِقِ دَعوَتِه: حيَويَّة ٌ داخليَّة، نشاط ٌ روحيٌّ مُوَحَّدٌ ومُتواصل، وَعيٌ دائِمٌ للمَسيحِ الذي مِنْ أجلِهِ ترَكَ كُلَّ شيءٍ، تدريجيّاً.


       هذا هُوَ النّظامُ الذي سيَّرَ حياة أبِ الرُّهبانِ والنّسَّاك. لم يَكُنْ لهُ قانونٌ يَسيرُ عليه، ولمْ يَسُنَّ هُوَ قانوناً للرُّهبانِ بعدَهُ. بَقيَ اختِبارُهُ الصَّافي أروَعَ نِظامٍ وقانون، لِكُلِّ نفسٍ أحبَّتْ أنْ تَسلـُـكَ السِّيرَة الرُّهبانيَّة.


       إذاً نحنُ لمْ نتَشَبَّهْ بِمِثلِ هذا الاختِبارِ الباطِنيّ، ولمْ نشعُرْ بِمثلِ هذهِ الحَيويَّةِ الرُّوحيّة، ولمْ نُحِسَّ بنوع ٍ مِن التدَرُّجِ في معرِفةِ الله، فعبثاً نسيرُ وَفقَ نِظامٍ خارِجيّ، وعبثاً نعمَلُ على صياغةِ قوانين جديدَة. ألنُّظمُ والقوانينُ والنذورُ الرُّهبانيّة، تنبثِقُ عن هذهِ الحيويّة، وتَجربَتُها الكُبرى: أنْ تُصبِحَ، معَ الزّمن، تَجميداً لهذهِ الحيويّة، إطاراً خارِجيّاً لها، لا تعبيراً حيّاً عنها.


(في روحانيّة القدّيس أنطونيوس)






اليوم السادس:


6- قراءةٌ من كتابِ "كوكب البرِّيَّة" ، لفؤاد أفرام البستانيّ


إختبارُ أنطونيوسَ في الصحراء حوّلها إلى جنّة غنّاء

       يا أبنائي الأحبَّاء.

      

ها إنّكُم توفّـِرون لأبيكُمُ التّعزيَة الشّافيَة عن آلامِهِ المُبَرِّحة، وعذاباتِهِ المُتواصِلةِ على أكثرَ مِنْ أربعين سنة ً؛ فيفرَحُ بكم، إذ يرى نِتاجَ جِهادِهِ المَريرِ وكِفاحِهِ العنيدِ في هذهِ البرِّيَّةِ الفسيحَة، التي انتزعها من الشّيطانِ قاحِلة ً جَدبة ً، فزرعَها بصلواتِهِ وأصوامِهِ، وسقاها بِدُموعِهِ ودِمائِه، وأخصبَها بتأمُّلاتِهِ واستغراقِهِ، ورعاها بِعينِهِ وقلبِهِ، ليلا ً نهاراً، دافِعاً عنها هيجَ السُّموم، وعيث َ الشرِّير. حتّى كسَتْها خُضرَةُ الأمل، فنما زَرعُها، وبرعَمَتْ أماليدُها، وتَفتّحتْ أزاهيرُها، وأينعَتْ ثِمارُها، فانتشَرَ عَرفُها، وعمَّ خيرُها. فقدَّمَها جَنّة ً غَنّاءَ وبُستاناً ناضِجاً إلى سيِّدِهِ يسوع.


وكان لهُ بِكُم فرَحُ الغِبطةِ وراحة ُ الطمأنينة. فاسمعوا لهُ يُفِدْكُمْ مِنِ اختبارِهِ الطويل، كما عزّيتُمُوهُ في آخِرِ حياتِه. فنتعاوَنُ معاً في إكمالِ هذا الصَّرحِ الذي أنشأناهُ معاً. إذ كُلّنا حِجارتُهُ نتماسَكُ حجراً حجراً، ونَصعَدُ مداميكَ مداميك، مُتساندين بعونِ اللهِ وعِنايَتِهِ. كُلُّ واحِدٍ مِنّا حجرٌ لهُ مكانُهُ في صرحِ الرّوحانيّةِ هذا.


ولا يَهولنّكُم تَفرُّقُكُمْ في المغاوِرِ والكهوف، والأخرِبَةِ والأطلال، المَنتشِرَةِ في هذهِ الجبالِ والأوديَةِ والسُّهول؛ فالإنسانُ يعبُدُ اللهَ بالرُّوحِ والحَقّ. كما يشاءُ، وحيث يَهُبُّ الرُّوحُ المُرشِدُ إلى الحَقّ. ووحدَتُكُمْ قائِمَة ٌ بالرُّوح، تُعزّزُها الصَّلواتُ المُوّحَّدَةُ الهدَف، والأدعيَة ُ المُتبادَلة، وهذهِ الاجتِماعاتُ الدّوريّة ُ نتبادَلُ فيها ثِمارَ الاختبارِ ونِتاجَ التّجارِب.

  



اليوم السايع:


7- قراءةٌ من كتابِ "كوكب البرِّيَّة" ، لفؤاد أفرام البستانيّ


أنطونيوس يدعو إلى التفتيش عن الكنوز الخالدة

       يا أبنائي الأحبّاء.

      

أذكروا أوَّلا ً أنَّ حياةَ الإنسانِ على هذهِ الأرضِ ظِلٌّ عابِر. فهيَ قصيرَةُ الأمد، سريعَة الزّوال، مهما طالتْ أيّامُها وثقلت وطأتُها. وها أنا الذي أدلـُـفُ أمامَكُم إلى السَّبعين، بِما مَرَّ على رأسي مِن بلايا وكوارِث، أشعُرُ بأنّي خرجتُ قريباً مِن قريَتي كُومَا. وسأنتقِلُ قريباً إلى وطني الخالِد. وما أخلقني بأنْ أرنّـِمَ - بلْ بأنْ نُرنّـِمَ جميعاً - مع صاحِبِ المزامير: "أفنينا سنينا كالوهم! أيّامُنا في مُعظمِها سَبعون سنة ً... وإذا طالتْ فثمانون. أمَّا رغدُها فضرَرٌ. وأمّا فرحُها فباطِل. وها هيَ مرَّت بنا سِراعاً كالطير!" (مز 89/9-10).

     

  فمهما طالت، ومهما كثرت فيها علينا التّجارِبُ والآلام، فهيَ لا تُوازي المَجدَ الذي سيتجلّى فينا، على ما ذكرتُ لكُم مِنْ قولِ بولس الرّسول.

      

ولهذا فإنَّ ما يترُكُهُ الواحِدُ مِنّا في سبيلِ الله: مِن أهلٍ وأنسباء، مِنْ مالٍ وجاه، مِن لذائِذ  وأمجاد، لا تُحسَبُ شيئاً في ما سينال، بعد أيّامٍ معدودات، من غِبطةِ الأبديَّةِ في حضرَةِ الله. فلنَحرَصْ إذاً، بدلَ كنوزِ الأرضِ البالية، على تحصيلِ الصّفاتِ التي تؤهّلنا لنيلِ الكنوزِ الخالدة: ألحِكمَة، والبصيرة، والقناعَة، والعدل، والمحبّة الشّاملة، مع رُسوخِ الإيمانِ بالمسيح الفائقِ كُلَّ شيء.




اليوم الثامن:


8- قراءةٌ من كتابِ "كوكب البرِّيَّة" ، لفؤاد أفرام البستانيّ


أنطونيوسُ يُحرّضُ على كسبِ الفضائل من الجميع

       يا أبنائي الأحبّاء.

      

عليكُم بالإنجيل! فهو غذاؤكُمُ المُحيي، بعد جَسدِ الرّبّ، ودواؤكُمُ النّاجع. ثمّ عليكُم بسائِرِ الكُتُبِ المُقدّسةِ حفظاً، وترديداً، وتأمّلا ً.

      

واستهدوا بهديِ مَنْ سارَ قبلكُم في طريق الصَّلاح، مِن قدّيسينا الراحلين، وآبائِنا المُرشدين. فلنقتدِ بهم جميعاً. إنّما كونوا، في ذلك، كالنّحلةِ الناشِطةِ، لا تختصُّ بِزهرةس واحدة، بلْ تتنقّلُ بين الأزهار. تحومُ عليها جَميعاً، فتختارُ مِن كُلٍّ منها ما يوافقها. تتناولُ من هذهِ الشّذى المُمَسَّك، ومن تيكَ الأريجَ المُنعش، ومن تلك النّكهةِ الأخَّاذة. وتستمِدُّ الحلاوةَ الطـَّـيِّبة مِن غيرها.وتأخذ ُ مادَّةَ الشَّهدِ مِن غيرها كذلك. حتّى تُخرِجَ العسَلَ اللّذيذ النّاجِع. وهكذا فليكُن مَوقفكم، أنتُم المُبتدئين، كما كان موقِفُنا، نحنُ السّالكين، ولا يزال. لا تقصِروا اقتداءكُم وتحصيلكُم على مُعلّمٍ واحد. بلْ تأمّلوا في فضائِلِ الجَميع. خذوا التّواضُعَ عن هذا، والطاعة عن ذاك، والصّبرَ عن ذلك، والبصيرَة، والحكمة، والمحبَّة، وحرارة الصَّلاة، وعُمقَ التّأمُّل والاستغراق... إلى سائِرِ الفضائِلِ التي يُمكِنُكم جَمعُها من مُعلّمينا جميعاً، قُدامى ومُحدثين. شأنكُم في هذا شأنُ النّحلةِ في جِنانِ أزاهيرها.





اليوم التاسع:


9- قراءةٌ من كتابِ "كوكب البرِّيَّة" ، لفؤاد أفرام البستانيّ


التواضع والطاعة أولى درجات الحياة الرّوحيّة

      

يا أبنائي الأحبّاء.

      

ليكُنْ رائِدُكم في كلِّ شيءٍ التواضعِ والطاعة، ذاكِرينَ دائماً أنَّ الخطيئة الأُولى، منذ تكوين العالم، كانتِ المَعصيَة الناتِجَة َ من الكبرياءِ، كبرياء إبليس التي دفعتهُ إلى التّمرُّدِ على الله. فوجبَ إذاً أنْ تكون كفّارتُنا بِضدِّ تلك الخطيئة المُزدوجة. وذلك بأنْ ننسَخَ تينكَ الرّذيلتين الأصيلتين بعكسيهِما: بالتواضع والطاعة. نتواضعُ للجميع.


ونُطيعُ بعضُنا بعضاً، ولا سيّما الرؤساءَ فينا، أولئِكَ الذين اختارَهم الله ليتحمّلوا عنّا المسؤوليّات، فننْصَرِفَ إلى أعمالِنا مُسترحين، خالين البالِ من همومِ الإدارَة. فلنُطِعهُمْ دون تردُّدُ ولا تحفـُّظ ولا نِقاش. ولنُصَلِّ مِن أجلِهِم بقدرِ مَهامّهم ومشاكلِهِم.

      

وإذا درَجنا في هاتينِ الفضيلتينِ الأساسيّتين، أمكننا أنْ نتفرَّغ لِما دُعينا إليهِ من الحياةِ الرُّوحيّة. فسهُلتْ علينا سُبُلها، وشَملنا الفرَحُ في تجاوزِ عقباتِها وارتيادِ منازِلها، وارتقاءِ درجاتِها، ناهِضين بما ألقاهُ علينا المسيح مِن مُهمِّةٍ في هِدايَةِ العالم.