يُريدُ رَحمَة ً لا ذبيحَة

القوت اليومي

يُريدُ رَحمَة ً لا ذبيحَة

 

 

 

قراءةٌ من القدِّيس يوحنا فمِ الذهب (+407).

 

 

 

 

حول إنجيل: "اجتازَ يسوع ُ في السبتِ بين الزروع"

 

 

      

إنَّ علينا أنْ نتمَسَّكَ بأقوالِ رَبِّنا، ونَرعى خلاصَ نفوسِنا، فنكون أهلا ً لِقبولِ المواهِبِ الإلهيَّةِ واحرازِ النعيمِ الأبديّ. إنَّ الذين كانوا يَنظرون إلى تَطهيرِ الأجسامِ والأواني، وتَفضيلِ الأيَّامِ باعتِبارِها في ذاتِها، حتّى بلغَ مِنْ جَهلِهِم أنْ يُنكِروا صَنيعَ مَنْ يَفرُكُ يومَ السبتِ سُنبُلة أو يَشفي مُخلّعاً، فسَقطوا عَنْ مَراتِبِ الفضيلةِ وكانوا خاسِرين. فإنَّهُ يُريدُ رَحمَة لا ذبيحَة. ولِهذا يَلزَمُنا الاهتِمامُ بِمصالِحِ النفوسِ لا بالأيّامِ بِما هيَ أيَّام، ولا بالأشياءِ المَجعولةِ لِخَدمَةِ الناس.

      

فلا نَظـُنَّ، أيُّها النّاس، أنَّ لنا بأمرِ الخلاصِ نَفعاً في اغتصابِ أموالِ اليتامى والأراملِ وأمثالِهِم، نَصنَعُ بها كأساً لِلقُربانِ مِن ذهب، مُرَصَّعاً بالحِجارَةِ الكريمَةِ، ومائِدَةً للأسرارِ المُقدَّسةِ وما شاكَل. ولكنْ إنْ أردْتَ أنْ تُكرِّمَ الذبيحَة الطاهِرة، فأكرِمِ الأنفُسِ التي ذبِحَتْ لأجلِها، لأنَّ سَيِّدَنا، لهُ المَجد، ساوى هذهِ الأنفُسَ بِنَفسِهِ إذ وَبَّخَ الذين لا يُعنون بها ؛ قال: جائِعاً كُنتُ فلمْ تُطعِموني، وعَطشاناً فلمْ تَسقوني، وعُرياناً فلم تَكسوني. فإنْ أهمَلتَ هذِهِ، وَصَنَعتَ لِتلكَ أوانيَ مِنْ ذهبٍ وفِضّة، فلن تُفيدَ شيئا.

      

فلكَ  أقول: لا تَصنَعْ للكنيسَةِ أواني ذهبيّة وفِضّيَّة أو هَياكِلَ مُزخرفة أو سُتوراً ثمينة، بلْ فكِّرْ كيفَ تُرضي مَنْ أنتَ لأجلِهِ صانِعٌ ذلك. فإنَّ هذا لأفضَلُ من الذهبِ الخالِص. فالكنيسَة ليسَتْ قاعَة ملكٍ بلْ هيَ مَحضَرُ الملائِكة. تَحتاجُ إلى إصلاحِ النفوسِ لا إلى الأواني النفيسَة.

 

وإنّما اللهُ يَرضى العناية بالنفوسِ لا الأعراضَ الخارجيَّة. فالمائِدَة التي قرَّبَ المسيحُ عليها لمْ تَكُنْ مِن فِضَّةٍ، ولا الكأسُ التي ناوَلَ تلاميذهُ بها مِن ذهب. كان شَرَفُها بامتِلائِها مِن الروحِ الإلهيّ. فإنْ أرَدْتَ أنْ تُكْرِمَ جَسَدَ المسيح، فأكرِمهُ كما يُريدُ هُوَ لا كما تُريدُ أنتَ، لأنَّ الكرامَة إنّما تَكونُ مَقبولة إذا وافقتْ غَرَضَ الذي تُقدَّمُ لهُ.

 

فإذا عرَفنا ذلك، وَجَبَ علينا أنْ نُكرِمَ المَسيحَ الكرامَة التي فرَضَها هُوَ علينا: أنْ نُنفِقَ أموالنا على الفقراء، ونَعُولَ الأيتامَ والأرامِل. لأنَّ اللهَ لا يَنظـُرُ إلى أوانيَ مِنْ ذهبٍ بلْ إلى النفوسِ الذهبيَّة.

 

 

(العظة 29)