ألصومُ الحَقيقيّ

القوت اليومي

ألصومُ الحَقيقيّ

 

 

 

قراءةٌ من القدِّيس يوحنّا فمِ الذهب (+407).

 

 

ألصومُ الحَقيقيّ

 

 

      

إنَّ مِن الواجِبِ علينا أنْ نَعرِفَ مَقاصِدَ أصوامِنا، فلا نَكون كالتائِهين في البَحر، يَتَوَهَّمون أنَّهُم إلى المَدينَةِ قاصِدون، وهُمْ في مُتَّجَهٍ آخَرَ هائِمون. فإنْ قُلتَ:  ما الصومُ في الحَقيقة، أهُوَ غيرُ الامْتِناعِ عَنِ الطعامِ وَقتاً مَحدودا؟ قُلتُ: ألصَومُ هُوَ الإمساكُ عَنْ جَميعِ الرذائِلِ والتَمَسُّكُ بِجَميعِ الفضائِل، بِمَنعِ النَفسِ عنِ اللذ َّاتِ البدَنيَّةِ كالأطعمَةِ والأشرِبَةِ وَسِواها.

 

وعلى ذلك قولُ اللهِ لِبَني إسرائيلَ، إذ كانوا يَظـُنُّون أنَّ الصَّومَ هُوَ الامتِناعُ عَنِ الطعامِ حتّى الليل فقط، ثمَّ يُقبِلون على الطعامِ يأكُلون ويَشرَبون. فيُبَكّتُهُمُ اللهُ قائِلا: ها سَبعون سنَة ً مَرَّت، ألعَلّكُم صُمتُم لي فيها صَوما، يا إسرائيل، وإنْ أكَلتُمْ وَشَرِبتُم، أفلستُمْ أنتُم تأكُلون وتَشرَبون؟

      

ليسَ الصَومُ أنْ يَضَعَ الإنسانُ نفسَهُ ويَحني عُنُقهُ ويَفتَرِشَ لهُ مِسحاً ورَمادا، بلْ أنْ تَحُلَّ أغلالَ الإثم، وتَقطَعَ رُبُط َ الظـُلم، وتُجانِبَ المَكرَ والغِشّ، وتُعْتِقَ المُستَعبَدين، وتَكْسِرَ خُبزَكَ للجائِع، وتُؤويَ الغَريبَ إلى بَيتِكَ، وتُنصِفَ الأيتامَ والأرامِل، ولا تتغاضى عَنْ لحمِكَ وَدَمِك.

 

فإنْ تفعَلْ ذلك، فيُشرِقُ نورُكَ في الظـُلمَة، ويَظهَرُ بِرُّكَ سَريعاً، وينفجِرُ ضياؤكَ مثلَ الصُّبح، وتَجْمَعُ كرامَة ُ الرَّبِّ شَملك، ويُدَبِّرُكَ اللهُ تَدبيراً صالحا، وتَشبَعُ نفسُكَ من الخصب، وتَصيرُ كالبُستانِ الذي تَموجُ أغصانُهُ نَضِرَةً، وكيَنبوعِ الماءِ الذي لا ينقطِع. وتَبني منْ خَيراتِكَ الخِرَبَ التي خَرِبَتْ مُنذ ُ القديم، وتُقيمُ الأساسَ الذي سقطَ من أوائلِ الزمان.

      

فإذا كان هذا قولُ اللهِ لأولئِكَ الذين مَواعِيدُهُم جَسَديَّة، فما عَساهُ يَقولُ لنا؟ وإذا كان لمْ ينظـُرْ إلى أصوامِهِم سَحابَة سَبعين سنة لِخُلوِّها مِنْ هذهِ الفضائل، فكيفَ يُبالي بأصوامِنا؟ وإلى مِثلِ هذهِ أشارَ رَبُّنا، قال: إنَّ الصَومَ مع الصَّلاةِ يُخرِجُ الشَيطان. فسبيلـُنا أنْ ننهَضَ مِنْ غفلتِنا ونُحافِظَ على الأصوامِ المَرضيَّةِ لإلهِنا، لِنَفوزَ بِنَعيمِ ملكوتِه، الذي له المَجدُ إلى الأبد. آمين.

 

 

(العظة 47)