الأحد العاشر من زمن العنصرة

الإنجيل

الأحد العاشر من زمن العنصرة

 

 

 

 

إنجيل متى (13/ 36 -43)

 

عيد مار شربل - الأحد الثالث من تموز

 

 

 

حينئذٍ تَرَكَ يسوعُ الجُموعَ وأتى إلى البَيت، فَدَنا مِنهُ تلاميذُهُ وقالوا لَهُ: "فَسِّرْ لنا مَثَل زُؤَانِ الحَقل".

 

فأجابَ وقال: "زارِعُ الزرعِ الجَيِّدِ هو ابْنُ الإنسان، والحَقلُ هو العالَم، والزَرعُ الجَيِّدُ هُم أبناءُ الملكوت،

 

والزُؤانُ هُم بَنو الشِّرير، والعَدوُّ الذي زَرَعَ الزُؤانَ هو إبليس، والحِصادُ هو نِهايَةُ العالَم، والحَصّادونَ

 

هُمُ المَلائكَة. فكَما يُجْمَعُ الزُؤانُ ويُحْرَقُ بالنّار، كذلكَ يَكونُ في نِهايةِ العالَم. يُرسِلُ ابْنُ الإنسانِ ملائكَتَهُ،

 

فَيَجْمَعونَ من مَمْلَكَتِهِ كُلَّ الشُّكوكِ وفاعِلي الإثم، ويُلقونَهُم في أتونِ النار. هُناكَ يكونُ البُكاءُ وصَريفُ

 

الأسنان. حينئذٍ يَسْطَعُ الأبرارُ كالشمسِ في ملكوتِ أبيهِم. مَن لَهُ أُذُنانِ فَلْيَسْمَع!". 

 

 

 

تأمّل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع).

 

 

يُطلق على هذا الفصل الثالث عشر من إنجيل متّى لقب "عظة الأمثال" لأنّه يقدّم مجموعةً من سبعة أمثال تدور كلّها حول الملكوت، وحول مواصفات الملكوت الّذي جاء المسيح ليحقـِّـقه، وكان سبق لمتّى أن مهّد لهذا الموضوع في بداية إنجيله بتشديده على صورة يوحنّا المعمدان الصّارخ: "توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات" (متى ٣، ٢).


عبر هذه الأمثال، يقدّم متّى صفات ملكوت السَّماوات: ينمو ويتحقـَّق بصمت، ونموّه بثبات دون أن تردعه حواجز الشرّ، يهدف إلى خلاص الإنسان وله قوّة خلاصيّة لأنّه شركة الحياة الأبديّة التي يهبها الله للصدِّيقين الّذين سوف يُشرقون في بيت أبيهم.

 

ملك الله هو أمر جوهريّ، لا بل هو الجوهريّ الأوحد في حياة الإنسان لذلك ينبغى على المؤمن أن يتخلّى عن كلّ شيّ في سبيل الحصول على الملكوت. ملكوت الله هو أيضًا حقل صراع بين الله والشّرير الّذي يسعى دومًا لعرقلة نموّ الملكوت، فيرمي بذار زؤان الشّر في حقل الرّب ليخنق بظلامه القمح، ولكن صبر الرّب وعنايته بالحقل ينجّي المؤمن من مخطّطات الشّرير المُهلكة.


في مثل القمح والزؤان ما يميّزه عن الأمثال الباقية في هذا الفصل ١٣:

 

تدخّل الشريّر لمنع تحقيق الخلاص في المجتمع وفي الكنيسة. ونجد فيه الإشكالية الشّائكة التي لطالما شكّلت حجر عثرة للمؤمن وللباحث عن الإيمان على حدّ سواء: لماذا الشّر في العالم؟ ولماذا يسمح به الله إن كان هو الضابط الكلّ بقدرته وخالق كلّ شيء؟ لماذا لم يقلع الرّب الزؤان من قمحه مباشرة؟ لماذا يسمح أن يحيا معاً البارّ والشريّر في عالم واحد؟ في مجتمع واحد؟ في كنيسة واحدة؟ ينموان معاً بالإمتيازات عينها، والله لا يحرّك ساكناً؟

 

عبر هذا المثل، يعطيه الرّب بطريقة غير مُباشرة الجواب على هذه الإشكاليّة التي يطرحها النّص:

 

"لا تنزعوا الزؤان لئلاّ تقتلعوا القمح والزؤان معاً" (متى ١٣، ٢٩). إذا نزع الله من الإنسان أمكانيّة اختيار الشرّ، يكون قد منعه من ارتكاب الشرّ ربّما، ولكنّه لكان اقتلع مع هذا الزؤان السيِّء القمح الحسن: لكان اقتلع مع الشرّ قدرة الإنسان على اختيار الله بارادته. لكان اقتلع من الإنسان الحريّة. وما قيمة حبّ الله والعلاقة معه دون حريّة؟ لكان حوّل الإنسان إلى عبد لا حريّة له، تقوم علاقته بالله على منطق الخوف والعقاب، لا منطق البنوّة الحرّة والحبّ المجانّي.


الجُمُوع و التلاميذ:

 

يتّفق الإزائيّون الثلاثة على التميّيز بين "الجموع" و"التلاميذ". للجموع مفهوم سيّّء بالنسبة لهم: إنّهم مجموعة من البشر لا رابط بينهم، جمعتهم الرّغبة في أن ينالوا شفاء، أو الحشريّة لمعرفة من هو هذا الناصريّ وكيف يتكلّم "بسلطان"، ولكنّهم لم يدخلوا في علاقة شخصيّة مع يسوع، ويمنعون الآخرين من الوصول إليه: منعوا الرِّجال حاملي المخلّع من بلوغ باب البيت، منعوا النازفة من الوصول إليه فزحفت من الخلف، كانوا لكثرتهم "يسحقون يسوع".

 

أمّا التلاميذ فهم صورة من دخل في علاقة شخصيّة مع الرّب، وتبعه كمخلّص وكرَبّ. هو الشّخص الّذي اعتنتق منطق يسوع ودخل في خدمة مشروعه.


البيت:

 

هو تعبير ارتبط دوماً، إن في الأناجيل أو في كتاب أعمال الرّسل بالكنيسة، فهو مكان اللّقاء بيسوع، هو مكان لقاء الجماعة، وهو هنا في هذا الإنجيل مكان شرح كلمة السيّد. وحدهم التلاميذ في البيت، أمّا الجموع فهم في الخارج. وحده من يقبل منطق يسوع ويدخل في علاقة ثقة وطاعة يقدر أن يفهم معنى هذا المثل. فقط في الإطار الإيمانيّ يمكن للإنسان أن يفهم منطق الله في سماحه للزؤان بالنموّ إلى جانب القمح، في تركه الشرّ يحارب الخير في حقل العالم والكنيسة، وفي حياة المؤمن.


الزَرْع الجَيِّد:

 

في المثل الأوّل من هذا الفصل، يُعطي يسوع مثلَ زارع الزرع. الزرع الّذي بذّره الزّارع في (متى ١٣، ٩) هي كلمة الله التي يرميها الرّب في الحقل وفي خارجه، فتُقبل فتنمو إن أعتُني بها، أو تجفّ إذا أُهملت ولم تُغذّى. ولكنّ الزرع في مثل القمح والزؤان يعني لا كلمة الله فحسب، بل هم أبناء الملكوت.

 

أنّ الكلمة التي زرعها الرّب فأثمرت في حياة التلميذ لا بدّ من أن تحوّله هو أيضاً إلى كلمة للرّب حيّة، فيصبح مزروعاً في حقل هذا العالم ليشارك هو أيضاً في الخلاص الّذي يريد المسيح تحقيقه. هذا المثل لا يُعارض المثل الأوّل بل يكمّله ويرسم مسيرة التلميذ الرّوحيّة: المؤمن الّذي قبل الكلمة التي بذّرها الرّب في قلبه، لا بدّ أن يتحوّل إلى هذه الكلمة، لا بدّ أن يترك كلمة الرّب تحوّله من الداخل ليصبح على صورة الكلمة - المسيح الّذي يدعوه.


الحَقْلُ هُوَ العَالَم:

 

الحقل هو ليس الكنيسة فحسب، فدعوة الربّ للتلميذ أن يحمل غِنى الكلمة التي قبلها في البيت - الكنيسة ويعلنها في حقل البشارة الشّامل، العالم بأسره، لتُعلن كلمة الرّب للكون بأسره، فتحقـِّق الكنيسة عبر التلاميذ دعوة الله لإبراهيم: "بنسلك تتبارك الأمم كلّها" (تك ٢٢، ١٨). هذه الصورة تتكامل مع صورة الزّارع التي أعطاها الرّب في مثل الزارع (متى ١٣، ٣-٩). فالزارع رمى البذار في الحقل الخصب وخارج الحقل أيضاً، والمكان الّذي يقبل بذار الكلمة يستحقّ الملكوت.


التأمّل:


حياة التتلمذ ليسوع هي مغامرة إيمان ودعوة إلى البطولة. القداسة هي عيش التتلمذ بأقصى درجات الوفاء للرّب الّذي لمسنا فشفانا وأحبّنا فدعانا.


دعوتنا المسيحيّة هي عيش في حقل العالم، نبذّر قمح الكلمة ولا نخاف وجود الزؤان. نعلم أن الرّب وفيّ، وهو صاحب الحقل وهو الّذي يحوّل القمح إلى سنابل ملأى بركات، تسهم في خلاص العالم، أمّا زؤان الشرّ فإلى أتّون نار لا تطفأ.


سرّ الألم ووجود الشرّ نفهم معناه داخل البيت، عبر منطق الكنيسة. منطق البشر قاس، يريد فناء الشرّير، وحده البّار يحيا. منطق الرّب يختلف، فهو منطق أبٍ حنون يُعطي دوماً مجالاً للقلب القاسي ليليّن، وللإنسان الشرّير ليعود إلى بيت الآب، فالآب "لا يُريد هلاك الخاطئ، بل أن يعود عن طريقه الشرّيرة ويحيا".

 

وحدها عين الإيمان تجعلنا نقبل منطقاً هو بالنسبة لمقاييسنا البشريّة منطق غير عادل. وحده تبنّي منطق الآب يجعلنا نفهم، منطق نقبله حين ندخل مع التلاميذ إلى البيت - الكنيسة، ندخل في علاقة شخصيّة مع الرّب، نلمس حضوره ونسمح له بلمسنا وولوج قلبنا ليغيّر حياتنا بهدوء حبّة القمح النابتة بصمت.


التتلمذ هو أن نكون تلاميذ لا حشود، هو أن نؤمن بيسوع ونقبله شخصيّاً في حياتنا، نتحوّل إلى عَمَلة في حقل خلاصه. نعي أنّنا في معركة وجهاد متواصلين ضدّ منطق الشريّر وزؤان الشّر. التلميذ القدّيس هو المعمّد الّذي يعي أنّ مشاركته ضروريّة في هكذا معركة، "فمن ليس معي هو ضدّي، ومن لا يجمع معي فهو يبذّر" يقول السيّد (متى ١٢، ٣٠). القداسة هي رفض للفتور، فالرّب يتقيّأ التلميذ الفاتر (رؤ ٣، ١٦).


مار شربل اختار القداسة، علم أن دعوته هي عيش جذريّة حبّه لله كجواب على حبّ الله الخلاصيّ للبشريّة. لقد استجاب لدعوة الرّب وانقاد لعمل الرّوح في حياته لأن يكون تلميذ يسوع، صديق يسوع، عاملاً في حقله لينمو القمح ويُضحي قرباناً، وجنديّاً من جنوده لينقـِّي حقل المسيح من زؤان الشرّ.


كما كلّ قدِّيس، وضع شربل نصب عينيه هدف أوحد: يسوع المسيح. أمّا وسيلة الوصول إليه فكانت الكنيسة، قَبِلَ تعليمها، وأطاعها أمًّا ومعلّمة. كان جنديّاً سلاحه الصّلاة. وكان عاملاً في حقل الرّب: صان كرم الدير بجهد جسده، وصان كرم الرّب بجهد الرّوح وبذبيحة افخارستيا كلّلت وجوده وختمت حياته على هذه الأرض لينطلق ويتّحد بصاحب الكرم.


ككلّ قدّيس، كان نصب عيني شربل حقيقة أن "الَّذي يزرَعَ الزُؤَانَ هُوَ إِبليس". علم أن وجوده في هذه الحياة هي العمل مع الرّب لتحقيق الخلاص، أخذ جانب السيّد فتحوّلت حياته إلى صراع دائم ضدّ عمل إبليس.


وبقي أيضاً نصب عينيه "يوم الحِصَاد، ، نِهَايَةُ العَالَم"، فالقدّيس هو تلميذ يسوع الّذي لا ينسى مُطلقاً أنّ هذا العالم لن يدوم، وخيراته تفنى، ولذّاته باطلة وجماله زائل، فيضع كلّ رجائه في عالم لا يزول، وجمال أزلّي غير مخلوق اسمه يسوع، يسعى للإتحاد به في شركة حبّ أزلي لا يُسبر ولا ينتهي. عاش شربل حياته كلّها كتهيئة للحظة "الحصاد" فنقـَّى الزؤان من حقل حياته لتكون سنابله وافرة الغلال قدّمها ساعة الرّحيل على مذبح الرّب برفع اليدين تحمل قرباناً قدّس حياته، وصار للعالم مثالاً في القداسة.


وها هو الآن شربل يَسْطَعُ كالشَمْسِ في مَلَكُوتِ أَبِيْه. نوره من بهاء الثالوث يأخذه، يصير لنا معلّماً في الإيمان، وفي نوعيّة التتلمذ ليسوع، فنفحص كلّنا نوعية صداقتنا ليسوع ونسأل ذاتنا: "أي تلميذ أنا؟" وننقـِّي منّا زؤان الخطيئة، زؤان الحقد والطمع والخصام ونقص العدالة وقلّة الرّحمة، نُزيل منّا السَّعي إلى ما هو زائل وماديّ، لنكون تلاميذاً أوفياء ومسيحيّين قدِّيسين، وتكون حياتنا حقلاً تملأه سنابل النعمة. 

 

 

 

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.