الأحد الثامن عشر من زمن العنصرة

الإنجيل

الأحد الثامن عشر من زمن العنصرة

 

 

إنجيل مرقس( 12/ 1 -12)

 

مثل الكرّامين القتلة

 

 

وبدَأَ يُكَلِّمُهُم بِأَمْثَال: «رَجُلٌ غَرَسَ كَرْمًا، وسَيَّجَهُ، وحَفَرَ مَعْصَرَةً، وبَنَى بُرْجًا، ثُمَّ أَجَّرَهُ إِلى كَرَّامِين،

 

وسَافَر.

 

ولَمَّا حَانَ الأَوَان، أَرْسَلَ عَبْدًا إِلى الكَرَّامِين، لِيَأْخُذَ مِنْهُم حِصَّتَهُ مِنْ ثَمَرِ الكَرْم.

 

فقَبَضُوا عَلَيْهِ وضَرَبُوه، ورَدُّوهُ فَارِغَ اليَدَيْن.

 

وعَادَ رَبُّ الكَرْمِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِم عَبْدًا آخَر، وهذَا أَيْضًا شَجُّوا رَأْسَهُ وأَهَانُوه.

 

وأَرْسَلَ آخَر، وهذَا أَيْضًا قَتَلُوه. ثُمَّ أَرْسَلَ غَيْرَهُم كَثِيريِن، فضَرَبُوا بَعْضًا، وقَتَلُوا بَعْضًا.

 

وبَقِيَ لَهُ وَاحِد، هُوَ ٱبْنُهُ الحَبِيب، فَأَرْسَلَهُ أَخِيرًا إِلَيْهِم وقَال: سَيَهَابُونَ ٱبْنِي.

 

ولكِنَّ أُوْلئِكَ الكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُم: هذَا هُوَ الوَارِث! تَعَالَوْا نَقْتُلُهُ، فَيَكُونَ المِيرَاثُ لَنَا.

 

فقَبَضُوا عَلَيْه، وقَتَلُوه، وأَخْرَجُوهُ مِنَ الكَرْم.

 

فمَاذَا يَفْعَلُ رَبُّ الكَرْم؟ سَيَأْتِي ويُهْلِكُ الكَرَّامِين، ثُمَّ يُسَلِّمُ الكَرْمَ إِلى آخَرين.

 

أَمَا قَرَأْتُم هذِهِ الآيَة: الحَجَرُ الَّذي رَذَلَهُ البَنَّاؤُونَ هُوَ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَة؛

 

مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ كانَ هذَا، وهُوَ عَجِيبٌ في عُيُونِنَا؟».

 

وكَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يُمْسِكُوه، لأَنَّهُم أَدْرَكُوا أَنَّهُ قَالَ هذَا المَثَلَ عَلَيْهِم. ولكِنَّهُم خَافُوا مِنَ الجَمْع، فَتَرَكُوهُ

 

ومَضَوا.

 

 

 

للتأمل:  (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع).

 

 

 

1. مثل الكرّامين قاله يسوع لرؤساء الشَّعب اليهوديّ، الذين أساؤوا الأمانة لله، وكان قد إتمنهم على شعبه، الذي سمّاه "كرمه". وعبّر يسوع عن عناية الله بهذا الكرم-الشعب: "سيّجه، حفر فيه معصرة، بنى برجًا لمراقبته والسّهر عليه" (الآية 1). وهي أفعال تدلّ على شريعة الله التي أوحاها لموسى، ونطق بها في المزامير، ونظّمها بهيكليّات من ملوك وأحبار وكهنة ولاويين، ومن طقوس وعبادات وسواها. ما جعل الشّعب منظّمًا تنظيمًا كاملاً.

 

2. هذا النصّ الإنجيليّ يشكّل استعارة، وليس مثلاً. الرّجل الذي غرس الكرم هو الله؛  الكرم هو شعب الله؛ الكرّامون هم رؤساء الشّعب المدنيون والدّينيون؛ سَفر الرّجل الغارس هو غياب الله عن النظر، وحضوره من خلال وكلائه، رؤساء الشعب. يوم القطاف هو حلول الملكوت المسيحانيّ الجديد، المتمثّل بالكنيسة، شعب الله الجديد.

 

شعب الله لا يعني أن الله ينتمي إلى هذا الشّعب، بل هو الشّعب الذي اقتناه الله وجعله "نسلاً مختارًا وكهنوتًا ملوكيًا وأمّة مقدّسة"، "لكي يعلن مجد فضائله" (1بط 2: 9). يصبح المؤمن عضوًا فيه لا بالولادة الجسديّة، بل بالولادة من علُ، من الماء والرّوح (يو 3: 3-5)، أي بالإيمان بالمسيح والمعموديّة. لهذا الشّعب رأس هو يسوع المسيح منه نلنا مسحة الرّوح في المعموديّة والميرون، وأصبحنا شعبًا مسيحانيًا. حالة هذا الشّعب كرامةُ حرّيةِ ابناء الله، بفضل الرّوح القدس السَّاكن في قلوب المؤمنين، كما في هيكل. شريعته وصيّة المسيح الجديدة، المحبّة، شريعة الرّوح القدس الجديدة. رسالته أن يكون ملح الأرض ونور العالم (متى 5: 13-16)، وزرع الوحدة والرّجاء والخلاص لكلّ الجنس البشريّ. أمّا غايته الأخيرة فهي نشر ملكوت الله في كلّ مكان، حتى يكتمل في ملكوت السّماء (كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكية، 782).

 

3. الخدام الذين أُرسلوا لتحصيل حصّة صاحب الكرم من ثمره هم الأنبياء الذين رفضهم رؤساء الشّعب وأهانوهم وقتلوا بعضهم، لأنّهم رفضوا كلام الله وإيحاءاته المسيحانيّة، وعادَوهم بسبب التنبيهات لضمائرهم، وشجب أفعالهم السيّئة والظالمة، وانتقادات أعمالهم الملتوية. فكان هؤلاء الأنبياء يتكلّمون بما يكلّفهم به الله. فكان رفض الرؤساء للأنبياء رفضًا لله ولتصميمه الخلاصيّ.

 

4. الابن الحبيب هو يسوع المسيح، وهو الاسم الذي أورده مرقس في إنجيله يوم معموديّة يسوع (مر 9: 7). "قتله خارج الكرم" دلالة لصلبه خارج المدينة المقدّسة. قتلوه ليعود إليهم الميراث وهو السيطرة على الشعب، ومحاولة تعطيل تصميم الله الخلاصي، الذي يحققه بيسوع المسيح، ابن الله المتجسّد، من بعد أن رأوا نجاح رسالته التي استمالت الشّعب الذي كان يتبعه بجموع غفيرة.

 

5. هذه مشكلة أصحاب السّلطة الذين يريدون حصرها بهم، لمصالحهم الخاصّة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة فيعادون ويعاكسون كلّ من يعمل للخير العامّ، الذي منه الخير الحقيقيّ للشّعب، وكلّ من يعمل من أجل العدالة وحقوق المواطنين. ويغتاظون منه بخاصّة إذا تبعه شعب وأيّده، فيرون فيه منافسًا يعتقدون أنّه يأخذ من وهجهم، فيستعدونه ويحاربونه مجّانًا.

 

هذا يجري على المستوى المكاني عندنا في لبنان، حيث لا اعتبار للدولة ومؤسَّساتها، وللشّعب وحقوقه، لدى النافذين والممسكين بالسّلطة والقرار. كما يجري على مستوى بلدان الشّرق الأوسط حيث الحروب المدمّرة للحجر وللبشر المفروضة، في فلسطين والعراق وسوريا وسواها، من الدول ذات النفوذ، من أجل مصالحها الاقتصاديّة والاستراتيجيّة والتجاريّة والسياسيّة.

هؤلاء كلّهم يرفضون بالطبع الأصوات المطالبة بإنهاء الأزمات وإيقاف الحروب وإيجاد الحلول السياسيّة وتوفير الخير العامّ وحقوق المواطنين، كما يعرقلون المساعي التي تؤول إلى الحلول عندنا وفي بلدان الشّرق الأوسط.

 

6. النتيجة هي أنّ "صاحب الكرم يأتي ويقتل الكرّامين". لا يُفسّر هذا الكلام بحرفيّـته، بل فيه إشارة إلى خراب مدينة أورشليم التي هم أسيادها. في الواقع تنبّأ يسوع على خراب أورشليم أكثر من مرّة ونبّه أهلها، شعبها والمسؤولين المدنيّين والدنيّين. نقرأ مثلاً في إنجيل لوقا:

"ولمّا اقترب من أورشليم نظر إلى المدينة وبكى عليها، وقال: ليتكِ عرفتِ اليوم طريق السّلام! ولكنّه الآن محجوب عن عينيكِ. سيجيء زمان يحيط بك أعداؤك بالمتاريس، ويحاصرونك، ويطبقون عليك من كلّ جهّة، ويهدمونك مع أبنائك الذين هم فيكِ، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنّك ما عرفتِ زمان مجيء الله لافتقادك" (لو 19: 41-44).

 

هذه النبوءة تمّت على يد الرّومان سنة 70. هذا هو مصير كلّ مدينة ودولة لا تريد أن تصغي لكلام الله، ولا أن تعيره أي اهتمام: تخالف شريعته الموحاة والطبيعية على السّواء، وترتكب الظلم والاستبداد والفحشاء. ولذا تطلب الكنيسة باستمرار العودة إلى الله بالتوبة والصّلاة والتقشف. وهي صدى لصوت الأنبياء، الذين كان آخرهم يوحنّا المعمدان المنادي بالتوبة. والرّب يسوع كرّر هذا النداء. والعذراء مريم في ظهورات لورد وفاطيما كانت تلحّ على صلاة المسبحة والتوبة من أجل ارتداد الخطأة وإنهاء الحروب.

 

7. والنتيجة أيضًا أن "صاحب الكرم يسلّمه إلى غيرهم" (الآية 9). الشّعب القديم الذي كان اسمه "اسرائيل" يفقد امتيازه، كشعب الله الذي كان قد خَصّه بالنبوءة والكهنوت والملوكيّة. وهنا تبلغ استعارة الكرم المؤجّر ذروتها، فيتحقق الكرم في شعب الله الجديد، الذي هو الكنيسة، وهو شعب "مسحه" المسيح بمسحته أي النبوءة والكهنوت والملوكية، كما قرأنا في رسالة القديس بطرس الرسول (1بطرس2: 9).

في مكان آخر يشبّه الرب يسوع كنيسته بالكرمة: "أنا الكرمة وأنتم الاغصان: من يثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمر كثير. أما بدوني فلا تقدرون على شيء" (يو 15: 5).

 

 

ثانيًا، كلمة الله وأبعادها الاجتماعية

 

1. في ضوء استعارة "الكرم" وخلافِ رؤساء الشعب مع يسوع ورفضِه ومحاولةِ القبض عليه، ثمّ المطالبة بصلبه، نفهم أنّ كلامه وتصرفاته كانت معاكسة لتعليمهم وممارساتهم. ولذلك رفضوه وقتلوه. إنّ جوهر الأمور هو في عدم الفصل بين القول والفعل: "إسمعوا أقوالهم، ولا تفعلوا أفعالهم" (متى 23: 3). كلمة الله تعلَن وتعاش في آن.

 

2. نتّخذ من الإرشاد الرسولي لقداسة البابا فرنسيس: "فرح الإنجيل" مقطعًا بعنوان: "البُعد الاجتماعي للكرازة بالإنجيل" (الفقرات 176-179). تتضمّن الكرازة لبَّ الإنجيل، وهو الحياة في جماعة والالتزام مع الآخرين أخلاقيًّا بحكم المحبة. عندما نعلن إيماننا نلتزم تجاه المجتمع.

 

أ – فالإيمان بالآب السماوي الذي يحبّ جميع الناس بحبٍّ لا متناهٍ، يعني أنّه يضفي عليهم كرامة لا متناهية.

 

ب – والإيمان بأنَّ ابن الله اتّخذ جسدنا البشري يعني أنّ كلّ شخص بشري رُفع إلى عمق قلب الله. وإيماننا بأنّ يسوع أراق دمه من أجلنا، يزيل كلّ شكّ بحبّه الفيّاض الذي يشرّف الجنس البشري. إن لفدائنا بعدًا اجتماعيًّا لأنّ الله بالمسيح افتدى ليس فقط الشخص الفرد، بل أيضًا العلاقات الاجتماعية القائمة بين الناس.

 

ج – الإيمان بالروح القدس وفعله في كلّ شخص يعني أنّه يريد الولوج إلى عمق كلّ وضع بشري وروابط اجتماعية. فللروح القدس قوّة خلاقة، ويعرف كيف يحلّ جميع العقد في شؤون الناس، بما فيها أربكها وأصعبها. الكرازة تهدف إلى تعزيز التعاون في عمل الروح القدس المحرِّر.

إنّ جوهر سرّ الثالوث الأقدس يذكّرنا بأنّنا خُلقنا على صورة هذه الشركة الإلهية، وأنّنا بالتالي لا نستطيع إتمام عمل الخلاص بجهودنا الشخصية. من لبّ الإنجيل نرى الرباط العميق بين الكرازة والإنجاز البشري. فعندما نتقبّل الكرازة، ندرك أن الله يدعونا لقبول محبّته، ولنبادله الحبّ، فيتولّد عندنا توقٌ وسعيٌ وحماية لخير الجميع.

 

3. هذا الرباط غير المنفصم بين قبول نداء الخلاص والمحبّة الأخويّة الخالصة. يظهر في العديد من النصوص البيبلية، التي نحن بحاجة دائمًا إليها للتأمّل فيها والعيش بموجبها.

 

أ – كلام الله يعلّمنا أنّ إخوتنا وأخواتنا هم امتداد لتجسّده من أجل كلّ واحد وواحدة منّا: "ما صنعتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي صنعتموه" (متى 25: 40).

 

ب – للطريقة التي نعامل بها الآخرين بعدٌ يفوق عالم الأرض: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم. لا تدينوا لئلّا تدانوا. لا تحكموا على أحد فلا يُحكم عليكم. أُعطوا تعطوا. فإنكم تُعطون في أحضانكم كيلًا جيّدًا فائضًا، لأن بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم" (لو6: 36-38).

 

هذان النصان يوضحان لنا الأولويّة المطلقة في الذهاب من الذات تجاه الإخوة والأخوات. ولذا، خدمة المحبة عنصر أساسي في رسالة الكنيسة، وتعبير عن صميم جوهرها لا غنى عنه. بطبيعتها الإرسالية تفيض الكنيسة حبًّا وحنانًا تتفهّم بهما وتخدم وتعزّز.

 

 

صلاة:

 

أيّها الربّ يسوع، لقد جعلتَنا وكلّ الناس كرمك، تعتني به بكلّ عناية، وترسلنا واحدًا واحدًا، وواحدة واحدة، فعلةً في هذا الكرم، لنعمل فيه ونؤتي ثماره التي ترضيك. ساعدنا بنعمتك لكي ندرك هذه المسؤولية. فكرمك هو العالم والكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة. أعطنا أن نعتني بما أوكلته إلينا، لكي نخدم بمحبة وتفانٍ وإخلاص. ونسألك أن تقود كلمة الإنجيل خطانا نحو الآخرين ونحو العمل في سبيل مجتمع أكثر إنسانية وعدالة وأخوّة. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

التنشئة المسيحيّة - البطريرك الراعي 

موقع بكركي.