أحد مدخل الصوم الكبير: آية عرس قانا الجليل

الإنجيل

أحد مدخل الصوم الكبير: آية عرس قانا الجليل

 

 

إنجيل يوحنا (2/ 1 -11)

 

أحد مدخل الصوم الكبير : أحد آية عرس قانا

 

 

في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك.

 

ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس.

 

ونَفَدَ الخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: «لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر».

 

فَقَالَ لَهَا يَسُوع: «مَا لِي ولَكِ، يَا ٱمْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!».

 

فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: «مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَٱفْعَلُوه!».

 

وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ

لِيترًا،

 

فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: «إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق.

 

قَالَ لَهُم: «إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة». فَقَدَّمُوا.

 

وذَاقَ الرَّئِيسُ المَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا - وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والخَدَمُ الَّذينَ ٱسْتَقَوا يَعْلَمُون - فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ

 

وقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الخَمْرَ الجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ المَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الخَمْرَ الجَيِّدَ إِلى الآن!».

 

تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ. 

 

 

 

 

 

تأمل :(لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته طوال الأسبوع بتمهّل).

 

لقد اختارالتّقليدُ المارونيُّ نَصَّ الإنجيلِ في أحدِ مَدخلِ الصَّومِ آيَة عُرسِ قانا الجليل، حيث حَوَّلَ يسوعُ الماءَ الذي كان مُعَدّاً بحسَبِ الشّريعةِ اليَهوديَّةِ لِلتَّطهيرِ إلى خَمر. هذه هي الآيَة الأولى التي صنعها يسوع بحسب الإنجيليّ يوحنا فأظهر مجده وآمن به تلاميذه.

 

تأتي آيَة عرسِ قانا في بِدايَةِ الصَّومِ إذ يَفتَتِحُ يوحَنّا إنجيله بِعُرْسِ قانا الجَليلِ وَيَخْتَتِمُهُ بعرسِ الصَّليبِ حيث يُعاني يسوع الآلامَ والموتَ والقيامة. وبين الفرحِ والألمِ والمَوتِ والقيامَةِ تَتَشَكّلُ وَتَتَمَحْوَرُ كُلُّ حياتنا حيث يَتَّخِذ كُلُّ شيءٍ مَعناه. في هذا الإطار يكونُ عرسُ قانا الجليل في أحدِ مَدخلِ الصَّومِ بدءُ مسيرةِ صيامٍ وعَودةٍ إلى الذات، مسيرةِ توبةٍ وفرح، تقودُنا إلى أسبوعِ الآلامِ وقيامةِ الرَّبِّ يسوع مِنْ بين الأموات.

 

معنى الصوم الذي يرضي الرّبّ:

 

عندما نكونُ مَسيحيِّين، يجبُ أنْ نُدْرِكَ عُمْقَ إيمانِنا وَجَوْهَرَ هَويَّتِنا المَسيحيَّة. لذلك عندما نريدُ أنْ نعمل، نحْنُ مَدعُوُّون أولاً أنْ نعرفَ ما هو الهدفُ مِن الشيءِ الذي نَعملهُ وما قيمتُهُ في حياتِنا، هذا ما كان يُرَدِّدُهُ القِدِّيسُ بولسُ في إحدى رسائِلِه: "إذا أرَدْتُم أنْ تَعبُدوا الله فاعبُدوهُ عَن مَعرِفة".

 

وهذا ما نحنُ مَدعُوُّون إليه اليوم، لأنّنا لا يُمْكِنُ أنْ نعبُدَ الله ونَحْنُ نَجَهله. فلِكَي نفهَمَ مَعنى كُلَّ ما نَقومُ بِهِ في حياتِنا المسيحيَّة، يجبُ أنْ نعودَ إلى مَصْدَرِهِ الكتابيِّ وهو الكتابُ المُقدَّسُ الذي يُشكّلُ جَوهرَهُ ومِحورَهُ والذي يَقودُنا إلى المعنى الحقيقيِّ خاصَّة ً فيما يتَعلّقُ بالصَّوم. نَشهدُ أنّهُ عندما كان يعيشُ الإنسانُ في الفِردَوسِ أي ما قبلَ الخطيئةِ لمْ يكنْ بِحاجَةٍ إلى الغذاءِ وتَقدِمَةِ الذبائِح، لأنّه لمْ يكُنْ هُناك بعدُ مِنْ خَطيئة.

 

ولكن بعدَ أنِ ارْتَكَبَ الإنسانُ المَعصيَة، أضحى بحاجةٍ إلى تقدمةِ الذبائِح تكفيراً عمّا ارتَكَبَهُ مِنْ خطيئةٍ وعِصيانٍ وَتَمَرُّدٍ على الله. مِنْ هذا البُعدِ اللّاهوتيِّ والكتابيِّ أصبحَ الإنسانُ بحاجةٍ إلى تقدمةِ الذبائِح تكفيراً عَنْ خَطيئتِهِ، فكان يقومُ بتقدمةِ الذبائِح و يَأكلُ مِمَّا فضُلَ مِنها.

 

مِنْ هذا البُعْدِ الكتابيِّ يأخذ الصَّومُ المَعنى الحَقيقيِّ لهُ الذي يقومُ بالإنقطاع عَنْ اللّحومِ والبَياضِ أي عن كُلِّ ما يَشتقّ عَنِ الحيوان. إذ غدا الصَّومُ بمعنى الكتابِ المُقدَّسِ الحنينُ إلى الفردَوسِ الضّائِع، والعودة إلى حالةِ البرارةِ الأولى التي كان يَعيشُها الإنسانُ قبلَ الخَطيئة. حسبَ العَهْدِ القديمِ لمْ تكُنْ مُمارَسَة الصَّومِ خاصَّة بِشَعْبِ إسْرائيل، بَلْ نَجِدُها في جميعِ الدّياناتِ.

 

ففي العهدِ القديم نَشْهَدُ أنَّ هُناك ظرفين يُطلبُ فيهِما الصَّوم، إذا حَصَلتْ مُصيبة كبيرةٌ فيَصومُ الإنسانُ لِلتّوبَةِ والحداد. لذلك حين علمَ داوودُ بِمَوتِ شاول ويوناتان مَزّق ثيابَهُ وبَكى وصامَ حتّى المساء: "فأمسكَ داودُ ثيابَهُ ومَزّقها هُوَ والرِّجالُ الذين مَعَهُ وناحوا وبَكوا وصاموا إلى المساء..." (2صم 1 /11-12).

 

لكنْ قد يُصْبِحُ الصَّومُ كثيراً مِن الأحيانِ مُمارَسَة ً خارجيَّة ً مَحضَة ً لا حُبّاً بِاللهِ بَلْ عَمَلاً بَشريّاً لا يَرتبط بِبُعْدٍ إلهيّ. هذا ما رَدَّدَهُ النبيُّ زكريّا: "كلّمَ كُلَّ شعبِ الأرضِ والكهنةِ قائلاً: حين كنتم تَصومون وتَنوحون في الشّهرِ الخامِس والسَّابع، وذلك في تِلك السَّبعين سَنَة، هل كان صيامُكُم لي أنا؟ وحين تأكلون وتَشرَبون ألا تَأكلون وتَشربون لكم؟" (زك 7 /5). هذا ما عاشَهُ الفريسيّون عِندما تبعوا شريعَة موسى بِكُلِّ حَذافيرِها خاصَّة فيما كان يخْتَصُّ بالصَّومِ والصَّلاةِ لكنّهُم أفرغوهما مِنْ مَضمونِهِما الذي هُوَ مَحَبَّة اللهِ  والقريب.

 

وفي هذا المَجالِ يقولُ أشعيا: "ما بالنا صُمْنا وأنتَ لمْ تَرَ وعَذَّبْنا أنفُسَنا وأنتَ لمْ تَعلم، في يومِ صيامِكُم تَجِدون مَرامَكُم وتُعامِلون بِقسْوَةٍ جَميعَ عُمَّالِكُم" (أش58/ 3). ولأنَّ يسوع جاءَ في خَط ِّ الأنبياء، كان يُنَدِّدُ بما نَدَّدوا أمامَ الكتبةِ والفرِّيسيِّين. في العهدِ الجديدِ شَجَّعَ يسوع على الصَّومِ وشَجَبَ مَظهَرَهُ الخارجيّ، وهذا ما كان يُرَدِّدُهُ يسوع "وإذا صُمْتُم فلا تَعبِّسوا كالمُرائين فإنّهُم يُكحِّلون وُجوهم، ليَظهروا لِلنّاسِ أنّهُم صائِمون" (متى6 /16).

 

إنَّ كُلَّ ما نَدَّدَ بِهِ يسوع يَعيشُهُ عالمُ اليومِ في الكثيرِ من الأحيان. إذ غدا الصَّومُ مَظهَراً خارِجيّاً وحَديث الحَياةِ اليَوميَّة، وفي هذا يفقدُ الصَّوم معناهُ الرُّوحيّ، وتَكمُنُ الخُطورَةُ في عَيْشِ روحِ الفرِّيسيَّة دون أنْ نَدري.

 

فالصومُ في بُعْدِهِ الرُّوحيّ، هو زمنٌ مُقدَّسٌ مَمْلوءٌ بِالنّعَمِ وهو وَسيلة، يَنْقُلنا مِنْ مكانٍ إلى آخر ويقودُنا إلى الإنفتاح على نِعمَة الله. هو يَتَخَطـَّى المَأكلَ والمَشربَ هو يقومُ في جَوهَرِهِ على استئصالِ العاداتِ السَّيئةِ والخروجِ عنِ المَألوف، هو تعبيرٌ خارجيٌّ عَنْ مَعنى إرتدادٍ باطنيّ وهذا ما كان يُردِّدُهُ أشعيا النبيّ: "أليس الصَّومُ الذي فضّلته هُو: حَلُّ قيودِ الشَّرِّ وفكُّ رُبُط النيرِ وإطلاقُ المَسحوقين أحراراً وتحطيمُ كُلِّ نير؟" (أش58 /6).

 

لذلك فالصَّومُ يقومُ على تغييرِ مَسلكِ حياتِنا بِكامِلِها، هو يقودُ إلى تقويَةِ الإرادةِ والسَّيطرَةِ على الذاتِ كما يقولُ الكتابُ المُقدَّس: "الطويلُ الأناةِ خيرٌ مِن الجَبّارِ والذي يُسيطرُ على روحِهِ أفضلُ مِمَّن يأخذ مَدينة" (أمث 16 /32).

 

إنَّ الصَّومَ الحَقيقيِّ يقودُنا إلى الإلتزامِ والتّضحيَةِ وبدون هَذين العُنصُرَيْن لا يُمْكِنُ مِن قيامِ حَياةٍ روحيَّةٍ حَقّة. هذان العُنْصُرانِ يَقودانِنا إلى خبرةِ اللّقاءِ مَعَ الله. هذا ما كان يفعلهُ يَسوع طيلة حَياتِهِ عِندما كان يَذهَبُ إلى القفرِ لِلصَّومِ والصَّلاة. فالصَّومُ هو علامَة إنتماءٍ إلى المَسيح وطاعةٍ لِلكَنيسة، وهذا ما يُحَدِّدُ هَويَّتَنا المَسيحيَّة، وكمْ مِن الأشخاصِ يَتَنَكّرون لِهذا القولِ ويُريدون العَيشَ بِحَسَبِ أهوائِهِم.

 

في كُلِّ هذا يَبْقى الصَّومُ الوسيلة الأكثرُ صُعوبَةً والأكثرُ فعاليَّةً لِحَلِّ أكبرِ المُعْضِلاتِ في حياتِنا الرُّوحيَّة، إنّه نزوحٌ إلى العُمْقِ وموتٌ عنِ الأنا ويُساهِمُ على القيام بِأهَمِّ رِحلةٍ في الحياة، هي الرِّحلة إلى داخِلِ الذات. هذا ما كان يُرَدِّدُهُ يسوعُ على مسامِعِ تلاميذه: " هذا الجِنسُ مِن الشّياطينِ لا يَخْرُجُ إلّا بِالصَّومِ والصَّلاة" (متى17 /21).

 

"وفي اليوم الثالث كان عرسٌ في قانا الجليل..." يفتتحُ يوحَنّا إنجيلهُ بعُرْسِ قانا الجليل ويختَتِمُهُ بعُرْسِ الصَّليب. لقد تبنّى يَسوع في آية قانا الواقعَ البَشَريَّ بِرقّةٍ تامَّةٍ وقبلَ الدعوَة إلى العُرسِ معَ أمِّهِ وتلاميذِه، وكيفَ يُمكِنُهُ أنْ يحتقِرَ أفراحَنا البَشَريَّة وهو الخالِق، إذ خلقهما "ذكراً وانثى" قائِلاً لهما: "أُنموا واكثروا".

 

إنَّها لشريعة الحياةِ والحُبِّ والخِصْبِ المُرْتَسِمَةِ في كُلِّ خليقة. لقد جُعلتِ البَشَريَّة لِعُرس: "كان عُرْسٌ في قانا" ويحسنُ أنْ تكون أمُّ يسوع حاضرَةٌ ويُدعى إليه تلاميذه، ومِنْ خِلالِ مَريَمَ والتّلاميذِ كانَتْ الكنيسَة حاضِرَة. ترتدي آية قانا مَعنىً نهيوياً حيث يُظهرُ يسوعُ مجدَهُ كمسيحِ إسرائيلَ ويكْشِفُ ذاتَهُ ويحْمِلُ تلاميذهُ على الإيمانِ بِه. لذلك مِنْ خِلالِ هذِه الآيةِ يهدِفُ يوحَنّا إلى التّشديدِ على طابِع هَويَّةِ يسوع وعلى تَفوُّقِ التّدبيرِ المَسيحيِّ على نظامِ العَهْدِ القديم

 

إنَّ آية قانا هيَ علامَة مَجيءِ الأزمِنَةِ المَوعودَةِ وتَدخّلِ الله الذي يأتي وَيَملأ فراغ الإنتظار، ويُحَوِّلُ ماءَ التّطهيرِ في الشَّريعَةِ القديمَةِ إلى خَمْرِ المَلكوتِ الجَديد. فالقدِّيسُ يوحَنّا يُريدُ أنْ يُقدِّمَ قانا كسيناءَ الجَديدة حيث يَستبدلُ أشخاصَ الحَدَثِ بآخرين: يسوعُ مكان يَهوه، ومَريمُ مكان موسى، والخُدَّامُ والتلاميذ مكان جماعةِ الشّعبِ المُختار.

 

في هذا نَشْهَدُ دورَ مريمَ في تَطابُقٍ مَعَ شعبِ إسرائيلَ الجَديد، فهي تَقومُ بخطوةِ الإيمانِ الواثِق وتعرضُ على ابْنِها حاجَة وانتظارَ الخَمْرِ الجَديد. لذلك يَضَعُ يوحَنّا على شِفاهِ مريمَ إعترافَ إيمانِ الشّعبِ المُختارِ يومَ سيناء: "كُلُّ ما تكلّم الرَّبُّ بِهِ نَعْمَلهُ" (خر19 /8). فعلى مريمَ والتلاميذ أنْ يَتَعلّموا كيفَ يَنتَقِلون مِن نظامِ العهدِ القديمِ إلى نظامِ العهدِ الجَديد، حيث يُصبِحُ الرَّمزُ حقيقة ويُصبِحُ كلمة الله المُتَجَسِّدِ عَروساً لِلبَشريَّة ومُخلّصاً لها.

 

لم تدْخُلْ مريمُ فوراً في هذا النظام بلْ طلبَتْ مِنْ يسوع آية لتُفسِحَ لهُ في المَجال بأنْ يتجلّى لِلعيانِ ويُظهرَ مَجْدَهُ. وبتلبيةِ طلبِها اقتادَها يسوع نحوَ الخلقِ الجَديدِ عندما قال: " ما لي ولكِ أيتها المَرأة؟" لمْ يرفُضْ يسوع الآية ففهِمَتْ مريمُ بِحَدْسِها ما قالهُ لها فتوجَّهَتْ إلى الخدَم قائِلة: "مهما قال لكُم فافعلوه".

 

ولكي لا تقتصر رؤيتُها على الآيةِ قالَ لها: "لمْ تأتِ ساعَتي بَعْد". وهذه السَّاعة هي السَّاعة التي يُقدِّمُ فيها، وهوَ العَروس، دَمَهُ خَمْرَةً لِلعُرْسِ الجَديد. إنّها ساعة الألمِ والمَوتِ والقيامَةِ التي يَتَحَقّقُ فيها كُلُّ شَيء. في آيَةِ قانا تَنْتَقِلُ الشَّريعَة القديمَة إلى الجَديدة، فهذِهِ الأجرانُ الحَجَريَّة السِّتَّة كما كانَتْ تقتضيهِ الطهارةُ عندَ اليهود: "يَسَعُ كُلٍّ مِنها مقدارَ مِكيالين أو ثلاثة" وهي كَميَّة هائِلة تُمثـِّلُ الشَّريعَة القديمة وعَجْزَها عَنْ تَحقيقِ الكَمال.

 

فيسوع وحدُهُ قادِرٌ أنْ يقودَ الشَّريعَة إلى كمالِها. فبِكَلِمَةٍ لفظَها اتَّخَذَ الماءُ القُدرَةَ على إعِطاءِ ما لمْ يَكُنْ قادِراً على أنْ يُعْطيه. وهذا ما كان يَحْدُث في جَميع الآياتِ التي صَنَعَها. فيظهرُ مِن خِلالِها كالذي يَخْلقُ مِنْ جَديد، وينقلُ مِن الخَلقِ الأوَّلِ إلى الخَلقِ الثاني والنّهائِي. إنَّ الله مُتواجِدٌ دائِماً في عَمَلِه الذي يُحَوِّلُ ويُطوِّرُ قبلَ أنْ نعلمَ نحنُ بِهِ. ولكي تَتِمَّ الأعجوبة لا بُدّ لنا مِنْ أنِ نؤمن بِكلامِه.

 

إنَّ هذِهِ الآية التي يَضَعُها القِدِّيسُ يوحَنّا في بدايةِ إنجيلِهِ، لمْ تكنْ مِن قبيلِ المُصادَفة. لذلك كان باستطاعَةِ يسوع أنْ يَصْنَعَ هذِهِ الآية في جنازَةٍ ويُقيمَ المَيت. لكن بِحَسَبِ الإنجيليِّ يوحَنّا أراد يسوع أنْ يَدُلَّ مِنْ خِلالِ هذهِ الآية، على سُمُوِّ سِرِّ الزواجِ ومَرجَعِيَّتِهِ الإلهيَّة، حيث رَفعَهُ مِنْ عِقدٍ بَشَريٍّ كما كان عليهِ في العهدِ القديمِ إلى سِرٍّ مُقدّسٍ يقومُ على إرتباطٍ إلهيٍّ في العهدِ الجديد.

 

فمِن خِلالِ آيَةِ قانا، نحنُ مَدعُوُّون بأنْ نَكتَشِفَ تَواجِدَ اللهِ وعملـَهُ في رتابةِ حَياتِنا اليوميَّةِ وخاصَّةٍ الزوجيَّةِ مِنها. فيسوع يُحَوِّلُ ماءَ التّطهيرِ إلى خَمْر، رمز تَحَوُّلِ العهدِ القديمِ إلى العهدِ الجديدِ، بواسطةِ العَذراء حَوَّاء الجَديدة التي مِنها أخذ جَسَداً ودَماً.

 

الأعجوبة الأولى التي يُتِمُّها يسوعُ مَحَبَّة ً بَأمِّهِ وإكراماً لها، التي أضحَتْ الوسيطَ بين ابْنِها والإنسانِ في الأزماتِ والإحراج، حيث تَحوَّلَ في زمانِنا اليومَ الإحراجُ والحُزنُ إلى فرحٍ والنقصُ إلى فيض. يَرْمُزُ الخمرُ في الكتابِ المُقدَّسِ إلى الفرحِ والحَياة، لكن رتابَة الحياةِ اليوميَّةِ التي يَمُرُّ بها الزّواجُ كثيراً ما تجعَلُ هذا الفرحَ ينفدُ كما نفدَ الخَمْرُ في عُرْسِ قانا.

 

لذلك فالحياةُ الزوجيَّة عندما تَتَعَثّرُ تُصْبِحُ بِحاجَةٍ ماسَّةٍ إلى تَدَخّلِ اللهِ وشفاعَةِ مريم، كما رأينا في عُرْسِ قانا، ليفيضَ الفرحُ ويضعَ الأمورَ في إطارِها الإلهيّ. إنَّ سِرَّ الزواج هو أسمَى وأخطرَ مَشروع ٍ يُمْكِنُ أنْ يُقدِمَ عليهِ الإنسان. أوَّلاً هو سِرٌّ سامٍ ومُقدَّسٍ لأنَّ مِنْ خِلالِهِ يَشتَرِكُ كُلٌّ مِن الزّوجَينِ في عَمَليَّةِ الخَلقِ التي بدأ بها الله. ثانياً تكمُنُ خطورتُه بِأنّهُ ليسَ مِن الأمورِ المضمونَة، إنه سِرٌّ يقودُ كُلّاً مِن الزّوجين نحوَ المَجْهول، فيكون مَصيرُهُ إمَّا النجاحَ وإمَّا الفشل، كما يقولُ المَثلُ اللبنانيّ: "صندوق مقفّل ما حدا بيعرف شو في". ويقولُ المَثلُ الروسيّ: "إن كنتَ ذاهباً إلى الحربِ فصَلِّ مرَّةً واحدَة، وإنْ كنتَ مُسافِراً في البحْرِ فصَلِّ مَرَّتين، وإن كُنتَ ذاهِباً لكي تتزوَّجَ فصَلِّ ثلاثَ مَرَّات".

 

 

 

فمِنْ خِلال آيةِ قانا نَشْهَدُ أنَّ الزواجَ يَمُرُّ في ثلاثةِ مراحِلَ مُتَتَالية. المرحَلة الأولى: هوَ الفرحُ الذي يَرمُزُ إلى الخَمْر، فكُلُّ زواجٍ يبدأ بِالفرَحِ والإندِفاع والدَّهْشَة، لكن رَتابَة الحياةِ اليوميَّةِ والضعفَ البَشريَّ كثيراً ما يجعلانِ هذا الفرح يَنفد كما نفدَ الخَمْرُ في عُرسِ قانا.

 

المَرحلة الثانية: خيباتُ الأملِ أي المرحلة الحَرِجَة، في هذه المرحلةِ يكتَشِفُ كُلٌّ مِن الزّوجَين نَقصَ الآخرَ ويكتشفُ أنَّ هُناك لغزاً يَخفي الكثيرَ في شخصيَّتِه. لذلك في هذِهِ المَرْحَلةِ يجبُ أنْ يعرفَ كُلٌّ مِن الزّوجَين في أنْ يتخَطّى شُعورَهُ وأحْكامَهُ تِجاهَ الشَّريك الآخر، هو مَدْعوٌّ لأنْ يُدرِك بأنَّ الآخر يَبقى دائِماً سِرّاً لا يُسْبَرُ غَورُه.

 

ثمّ المرحلة الثالثة: وهي الإلتزامُ أي الإرتباط "بِالنعَم" التي قالها كُلٌّ مِن الزّوجَيْن أمامَ اللهِ والكَنيسَةِ والشّعب. إنَّ الحُبَّ في الزّواجِ هُوَ قرارٌ لا يُريدُ إلّا الإلتزامَ الشّخصِيَّ وهو ليسَ كالفراشَةِ التي تَنتَقِلُ مِنْ زهْرَةٍ إلى زهرَة، بَلِ الحُبُّ الحقيقيُّ هو مثلُ شجرةِ العرباشِ التي تَموتُ حيث تكون.

 

إنَّ الحُبَّ في الزّواجِ لا يَنمو إلّا على تُربَةِ الإيمانِ الرَّاسِخِ والثقةِ الوَطيدَةِ وليسَ على الثقةِ البَشريَّةِ الضّعيفة. إنَّ عكسَ الإيمانِ  ليسَ الإلحاد بَلِ الخَوف، وكمْ مِن الأشخاصِ مِنْ كِلا الجِنْسَين في عَصْرِنا الحاضِرِ يَخافون مِن المُجازَفةِ في الحُبّ، لأنّهُم يَبنونَهُ على مَقاييسَ بَشَريَّةٍ واهنَةٍ كالزّواجِ المَدَنيِّ والمُساكنَةِ وغيرِها. فالإرتباط في الزَّواجِ لا يُريدُ إلّا الدَّيمومَة.

 

إنَّ هذا الرِّباط ليسَ رِباطاً طَبيعيّاً، بَلْ لهُ بُعْدٌ إلهيٌّ يجبُ أنْ نَبنيهِ  يوماً بعد يوم، وهوَ يقومُ على العَطاءِ المُتَبادَل، هوَ نِعْمَة ٌ مَجّانيَّة ٌ يُدخِلنا في عالمِ التّضْحيَة. في هذا يقولُ كاتِبٌ إلمانيّ: "إنَّ طالبي السَّعادةِ يجبُ أنْ لا يَتَزَوَّجوا، لأنَّ المُهِمَّ في الحياةِ الزّوجيَةِ هوَ إسعادُ الشّريكِ الآخر".

 

إنَّ هذا الحُبَّ الزَّوجيَّ هو الثمنُ الذي يَجِبُ أنْ نَدْفعَه، هو مُستحيلٌ بين البَشَرِ لكِنّهُ مُمْكِنٌ عِندَ الله. إنَّ مِقياسَ هذا الحُبِّ هو الإيمانُ المُطلقُ بِكلمَةِ اللهِ التي هيَ كلمَة ٌ مُعْطاةٌ لا رُجوع عَنها: "فأجابَ سِمعان: يا مَعلّم تَعِبْنا طَوالَ اللّيلِ ولمْ نُصِبْ شيئاً، ولكِنّي بِناءً على قولِك، سألقي الشَّبكَة" (لو5/5).

 

هذِهِ الكلمة تبقى الضَّمانَة الأساسيَّة لهذا السِرِّ المُقدّس. إنَّ هذا السِرَّ لا يُمكِنُ فهْمُهُ على المُستوى البَشَريِّ لأنّهُ يبقى سِرّاً يَفوقُ تَفكيرَنا وإدراكَنا. إنَّ قُوَّة الحُبِّ في هذا السِرِّ تأتي مِن الله وَحْدَه، فلا أحدَ يُمْكِنُ أنْ يُحِبَّ إلّا إذا كان اللهُ يعملُ فيه. وهذا ما كان يُرَدِّدُهُ المَسيحُ في إنجيلِ يوحَنّا: "...فإنّكم بِمَعزِلٍ عنّي لا تستطيعون أنْ تعمَلوا شيئاً".

 

إنَّ الطريق الأقربَ إلى اللهِ في هذا السِرِّ، يَعْبُرُ في الإنسانِ الآخر. عليكَ إذاً أنْ تُحِبَّهُ وتَقبلـَهُ كما هُوَ وتَعْتَنيَ بِهِ وَتَصْبِرَ عليه، آنذاك تَلتقيانِ مَعاً في الله. فمَنْ يُحِبُّ وَحْدَهُ  يَستَطيعُ أنْ يعرِفَ الله.

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

 

1- ما هو مفهومنا اليوم للزّواج المسيحيّ؟ كيف نفهم كلام المسيح هذا: "ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان؟ هل نعي في صميم إيماننا أنَّ الزّواجَ خارج إيماننا المسيحيِّ يُضحي حَجَرَ عثرةٍ لا يُمكن تَحقيق عيشه وفهمه؟

 

2- كيف نُقيّم زيجات مُجتمعنا اليوم؟ هل نُدرك أنَّ عدم نجاح بعض الزّيجات يعود سببها إلى جهل هذا البُعد الإيماني الذي يشكّل المَرجعيّة الأساسيَّة لهذا السِرِّ المُقدّس؟

 

3- هل أدركُ أنَّ النَعَم التي يَقولها الكاهن في سيامَتِه، ويقولها كُلٌّ مِن الزّوجين أمامَ الكنيسة، هي قرارٌ لا رجوع عنه، ترتبط إرتباطاً جوهرياً "بنعم" مريم التي أدركتْ بإيمانِها أنَّ الله سيكون لها الضمانة؟

 

صلاة: أيُّها العروسُ السَّماويّ، يا مَن دُعيتَ إلى عَرسِ قانا لتملأ خوابي أفراحَنا مِنْ خمرةِ حُبِّك الجَديدة المُقدَّمَة لنا. حَوِّلْ نقصَ إرادتِنا وَفيضَ جسامَةِ خطيئتنا إلى غفران، ومُعضِلاتِ زيجاتِ عصرِنا إلى واحاتِ حَلٍّ وحُبٍّ وسَلام. ألهِمْ ضَمائِرَنا لكي نعبُرَ معك مِنْ مكانٍ إلى آخر كما مريم وتلاميذك فنكتشِفك كما أنتَ. لقد خلقتنا على صورَتِك وشئتَ أنْ تكون حياتُنا فعلَ حُبّ. أمامَ كُلِّ قرارٍ وعَمَلٍ هَبْنا أنْ نَسألَ دائماً عَمّا يفرِضُهُ ذلك الحُبُّ علينا. هبْنا نوراً مِنْ لدُنِك لنرى، وقوَّةً لنسْلك الطريق الذي يَؤول بِنا إليك. أعْطِنا أنْ نكون أ ُمَناءَ لِلعهدِ الذي قطعناهُ أمامَك حتّى النّهايَة. لك المَجْدُ إلى الأبد، آمين. 

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.