أحد الموتى المؤمنين

الإنجيل

أحد الموتى المؤمنين

 

 

 

إنجيل لوقا (16/ 19 -31)

 

أحد الموتى المؤمنين

 

قالَ الربُّ يَسوع: «كَانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلْبَسُ الأُرْجُوانَ وَالكَتَّانَ النَّاعِم، وَيَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ بِأَفْخَرِ الوَلائِم.

 

وكانَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لَعَازَرُ مَطْرُوحًا عِنْدَ بَابِهِ، تَكْسُوهُ القُرُوح.

 

وكانَ يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الغَنِيّ، غَيْرَ أَنَّ الكِلابَ كَانَتْ تَأْتِي فَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ.

 

وَمَاتَ المِسْكينُ فَحَمَلَتْهُ ٱلمَلائِكَةُ إِلى حِضْنِ إِبْرَاهِيم. ثُمَّ مَاتَ الغَنِيُّ وَدُفِن.

 

وَرَفَعَ الغَنِيُّ عيْنَيْه، وَهُوَ في الجَحِيمِ يُقَاسِي العَذَاب، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيد، وَلَعَازَرَ في حِضْنِهِ.

 

فَنَادَى وقَال: يا أَبَتِ إِبْرَاهِيم، إِرْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لَعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُتَوَجِّعٌ

 

في هذَا اللَّهِيب.

 

فَقالَ إِبْرَاهِيم: يا ٱبْنِي، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلْتَ خَيْراتِكَ في حَيَاتِكَ، وَلَعَازَرُ نَالَ البَلايَا. والآنَ هُوَ يَتَعَزَّى هُنَا،

 

وأَنْتَ تَتَوَجَّع.

 

وَمَعَ هذَا كُلِّهِ، فَإِنَّ بَيْنَنا وَبَيْنَكُم هُوَّةً عَظِيمَةً ثَابِتَة، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْتَازُوا مِنْ هُنا إِلَيْكُم لا

 

يَسْتَطْيعُون، ولا مِنْ هُناكَ أَنْ يَعْبُرُوا إِلَيْنا.

 

فَقَالَ الغَنِيّ: أَسْأَلُكَ إِذًا، يا أَبَتِ، أَنْ تُرْسِلَ لَعَازَرَ إِلَى بَيْتِ أَبي،

 

فإنَّ لي خَمْسَةَ إِخْوة، لِيَشْهَدَ لَهُم، كَي لا يَأْتُوا هُمْ أَيْضًا إِلى مَكَانِ العَذَابِ هذَا.

 

فقَالَ إِبْرَاهِيم: عِنْدَهُم مُوسَى وَالأَنْبِياء، فَلْيَسْمَعُوا لَهُم.

 

فَقال: لا، يَا أَبَتِ إِبْرَاهِيم، ولكِنْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِم وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُون.

 

فقالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: إِنْ كانُوا لا يَسْمَعُونَ لِمُوسَى وَالأَنْبِيَاء، فَإِنَّهُم، وَلَو قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَات، لَنْ يَقْتَنِعُوا!».

 

 

تأمل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته طوال الأسبوع بتمهّل).

 

 

تذكر الكنيسة طيلة هذا الأسبوع جميع المَوتى المؤمنين الذين رقدوا على رجاء القيامة خاصَّة المُتألمين في المَطهر لكي يُشاهدوا وجهَ اللهِ في سعادةِ السّماء. لذلك تطلبُ الكنيسة شفاعَة الذين يتنعَّمون بالمجدِ الأبديّ وتدعو جميع المؤمنين إلى الصّلاةِ وتقديمِ الذبيحةِ الإلهيَّةِ من أجلِ جميع المَوتى المؤمنين.

 

 

فالذبيجة الإلهيَّة هي المكانُ الوحيدُ الذي نلتقي فيه مَعَ جميع أمواتِنا وهو العملُ الأسمى الذي يبقى ويتجلّى في حياة الكنيسة وفي حياة كُلٍّ مِنّا. فمِنْ خلالِ هذا الإنجيل، تدعو الكنيسة اليوم إلى سلوكِ الطريقِ الآمنةِ التي توصِلنا إلى السّعادةِ بالسَّهَرِ والإيمانِ والصّلاةِ المُستمرَّة. وتدعو كُلَّ المؤمنين إلى القيامِ بأعمالِ المَحبَّةِ والرَّحمةِ والرَّأفةِ تجاه كُلِّ المُعوَزين والتّصميمِ على توبةِ القلبِ التي وَحدَها تستطيعُ أنْ توصلنا إلى قلبِ اللهِ وتغمُرُنا بالفرحِ الحَقيقيِّ والسَّعادَةِ والسَّلام.

 

 

"كان رجل غنيٌ... وكان رجلٌ مسكين اسمه لعازر". ينفردُ القدِّيس لوقا بين كُلِّ الإنجيليِّين بمَثلِ الغَنيّ ولعازر. في هذا المَثل فكرتان أساسيَّتان: الأولى هي أنَّ تقريرَ مصير الإنسانِ يتمُّ حالاً بعدَ المَوت. والثانية هي أنَّ التوبة لا تقوم بواسِطَةِ مُعجزةٍ كأنْ يعودَ مائِتٌ ليُنذِرَنا بَلْ بالإيمانِ الفعَّالِ بِما علّمَ الأنبياءُ والرّسلُ في الكُتُبِ المُقدَّسةِ وهو مُختَصَرُ تعاليمِ الكنيسةِ على مَمَرِّ الأجيال.

 

 

في هذا النصّ من الإنجيلِ نشهدُ إنقلابًا في المَقاييس، إنقلابًا لكُلِّ الإعتباراتِ البَشريَّةِ بين حياةِ الأرضِ وبين حياةِ السَّماء: "وكثيرٌ من الأوّلين يَصيرون آخِرين، والآخِرون يصيرون أوَّلين" (مر10/ 31). إنَّ المشهدَ في هذا المَثلِ يجعلنا أمامَ شخصين: الأوَّلُ غنيّ جدًّا، فيظهرُ غِناهُ بلباسِهِ النّاعِمِ وَوَلائِمِهِ اليَوميَّة، والثاني فقيرٌ مِسكينٌ اسْمُهُ لعازر. لذلك يذكرُ الإنجيلُ اسمَ لعازرَ ولمْ يذكرْ اسمَ الغَنيّ: "كان رجلٌ غنيٌ يلبسُ الأرجوان... وكان رجلٌ فقيرٌ اسمه لعازر".

 

 

هذا ما يُرَدِّدُه سِفرُ الجامعة: "فإنَّه أتى باطلاً إلى الظلامِ وفي الظلامِ يُدْفنُ اسمُهُ" (جا 6/ 4). هذا هو الشّخصُ الوحيدُ الذي نعرفُ اسمَهُ في أمثالِ يسوع. إنَّ هذا المثل يُشدِّدُ على شقاءِ لعازر ذاكِرًا مَرَضَهُ وفقرَهُ. فمن جِهَّةٍ يُشدِّدُ على الرَّجُلِ الغَنيِّ الذي اشتهَرَ بالرَّفاهيَّةِ والتّبذيرِ والوَلائِم. وهذا يَدُلُّ على أنَّ الغنيَّ عرفَ أنْ يَتنَعَّمَ معَ أصدقائِه. فوجدَ الفقيرُ نفسَهُ في حضنِ إبراهيمَ أيّ في حضنِ الله، أمَّا الغنيُّ فكان فريسة العَذابِ في الجَحيم.

 

 

ومِنْ جِهَّةٍ أخرى يَذكرُ الفقيرَ والقروحَ والفقرَ المُدقع الذي يعيشه. لذلك لا يوجد إتّصالٌ مُمْكِن بين هذين العالمين. إنَّ هذا المَثلَ لا يُقدِّمُ حُكمًا أخلاقيًا، وهو لا يقول إنَّ الغنيّ كان شريرًا أو أنانيًا. ولا يقول إنّ لعازر كان فقيرًا صالحًا فاستحقّ له صلاحه السّماء. إنَّ الغنيّ لم يَكُن يرى لعازر على مائدته، فخطيئته هي أنّه لم يكنْ يُشركُ الفقيرَ في غناه.

 

 

فليسَ بإمكانِ المسيح ولا الرُّوح القُدُسِ ولا الآب السَّماويّ نفسه ولا أحد أنْ يتغلّبَ على حُرِّيَّةٍ انغلقتْ على نفسِها. لذلك فمصيرُ الغنيِّ هوُ حَجَرُ عثرة لكنَّ حجرَ العثرةِ لا يأتي مِن اللهِ بَلْ مِن الإنسان. هذا ما أوصَلهُ لأنْ يَخسَرَ نفسَه، فقد فهِمَ أنّهُ ضَلَّ طريقه. وهو يَتمَنّى لإخوَتِهِ الذين يعيشون في هذِهِ الرَّفاهيَّةِ عينها والعَمى ذاتَهُ أنْ تنْفتِحَ عيونُهُم قبلَ فواتِ الأوان.

 

 

لذلك يُشدِّدُ جوابُ إبراهيمَ على أنَّ أعظمَ العَجائِبِ لا تُفيدُ شيئًا. بلْ إنَّ هناك وسيلة واحدة لا تُخْطِئ، وهي أنْ تبقى عيونُنا مَفتوحَة: "عندهم موسى والأنبياء" وهذا يكفي. هذا ما كان يُرَدِّدُ أحدُ الآباءِ القدِّيسين: "إنَّ مَنْ يتحَسَّسُ خطاياه هُوَ أعظمُ مِمَّنْ يُقيمُ المَوتى".

 

 

لقد ندَّدَ الأنبياءُ بالخطايا الخَفيَّة ولا سيَّما تلك التي تَسْتَعْبِدُ الفقراءَ وتُسيءُ إليهم. فمَنْ أساءَ إلى المسكينِ أساءَ إلى اللهِ نفسه. هكذا حملَ النَّبيُّ عاموس على الأغنياءِ في عَصرِه، الذين كانوا يعيشون في الأنانيَّة قائِلاً: "فإنّي عالِمٌ بِمَعاصيكُمْ الكثيرة وخطاياكم العَظيمة تُضايِقون البَارّ وترتشون وتُحَرِّفون حَقَّ المَساكينِ في الباب" (عا 5/ 12). بحسبِ تعاليمِ الكِتابِ المُقدَّسِ ليسَ الغِنى شَرًّا ولا الفقرُ خلاصًا، بلْ يُصْبِحُ الغِنى شَرًّا عندما لا نُعْطِ منهُ أو نُذكِّ إلى المُحتاجين والمُعوَزين

 

 

فالمالُ الذي بين أيدينا هُوَ وسيلة ٌ وليس غاية، هو مثلُ الماءِ الذي يُعطي الحياة وبِاسْتِطاعتِهِ أنْ يحملَ السَّفينة لكي يَصِلَ بِها إلى ميناءِ الخَلاص، وباسْتِطاعَتِهِ أنْ يكون مَصْدَرَ هَلاكٍ ويَقودُهها إلى الغَرَقِ عندما يتسرَّبُ إلى داخِلِها. هكذا عندما يُصْبِحُ المالُ غاية يصبحُ مصدرَ هلاك، فيتسرَّبُ إلى قلبِنا ويَسْتَعْبدُنا ويقودُنا إلى الدَّينونَة.

 

 

ويقولُ القدِّيسُ غريغوريوس النّيصي: "إنَّ ما يفيضُ عنك ليسَ لك، فلا تستطيع أنْ تجعلَ نفسَك مالكًا له". ويقول القدّيس باسيليوس الكبير: "لا يحقّ لك أن تستعمل مالك متمتّعًا به على هواك بل كموكّل عليه". هذا ما حذّر منه يسوع لأنَّ في المالِ والغِنى خطرٌ على الإنسان، فهو رَبٌّ ثانٍ وبابُ هلاكٍ أبَديّ. فيسوع لم يُحَرِّمْه بَلْ حذّر منه.

 

 

لذلك فالخطورة تكمنُ عندما نعيشُ بِغَيبوبَةٍ دون أنْ نقرأ تَدَخُّلاتِ اللهِ في تاريخِنا وخاصَّة في الإنسانِ القريبِ الذي وَضَعَهُ اللهُ على دَرْبِنا. فلنا مِنْ سيرَةِ القدِّيسِ باسيليوس الكبير الذي وضَعَ رُهبانَهُ أمامَ حاجَةِ الإنسان، بأنْ يكونوا ساعِين لِلرِّفقِ بالفقيرِ، وإيواءِ اليتامى، ورعايةِ العجائز، وتثقيفِ الجاهِل. وكان هذا مثالُ القدِّيس أنطونيوس في الجماعاتِ التي تكَوَّنَتْ حوله، والقدِّيس أغسطينوس والقدِّيس بندِكتُس.

 

 

وكان هذا عمل الأمّ الطوباويَّة تريزا دو كالكوتا قدِّيسَة الفقراء، التي كانت تُحاولُ أنْ تُخَفِّفَ مِنْ ألمِ المَريضِ والمُنازِعِ وتُعَزّي المُصابَ بالبَرَصِ وتُعْطي الطعامَ للبُطونِ الجائِعَة. لذلك فمَنْ تجَذ َّرَ في الله يُصبِحُ ابن الله، ومَنِ انتمى إليه أخذ مِنْ صِفاتِهِ الإلهيَّة، ومَنِ اختارَ الله عَمِلَ بِمَحَبَّتِهِ وحَفِظ وَصاياه، وهذا ما قامتْ بِهِ الكنيسَة على مَدى تاريخِها.

 

 

في عالمِنا اليوم هُناك الكثيرُ مِن الأغنياءِ وهُناك الكثيرُ من الفُقراءِ يُجَسِّدون الرَّجُلَ الغَنيَّ ولعازرَ المِسكين. إنَّ عالمَ اليومِ بلغَ في تطَوُّرِهِ إلى تقنياتٍ أوْصَلتْهُ في قِمَّتِها إلى طرقاتٍ مُغلقةٍ وما زالَ الفقرُ يَفتُكُ بالكثيرِ مِن النّاس. فيقولُ اينشتاين في هذا الصدَّد: "نحنُ نعيشُ في زمن وسائِطهُ بلغَتْ الكمالَ وغاياتُه في ضياع"، إذ أضحَى عالمُ اليومِ بَحَّارًا أتقن المِهْنَة والصِّناعَة ولكنَّهُ أضاع البوصَلة.

 

 

إنَّ الإنسان بطبيعَتِهِ فرد في الجَماعَة، ولا بُدَّ مِنْ أنْ نعترِفَ بأنّه يريدُ أحيانًا أنْ يكون مُنفرِدًا لذاتِه، ولكنّه في حياتِه هُوَ جُزءٌ مِن الجَماعَةِ وبحاجَةٍ إلى الآخرين ليتمكّن مِنْ عيشِ حياتِهِ، فنحنُ بحاجةٍ للـ"أنت" لنصبح الـ"أنا". لذلك فالعالمُ لا يستقيمُ إلاّ بوجودِ أناسٍ يَتَعاضَدون ويتعاوَنون مَعَ بعضِهِم البَعْض وهذا ما يُشكّلُ جوهرَ الحياةِ المسيحيَّةِ وجوهرَ هذا الإنجيلِ الذي تتجلّى فيهِ مَحبَّة الله التي لا يُمكِنُ إلّا أنْ ترتبِطَ بمحبَّةِ القريبِ ومعرِفةِ حاجاتِهِ.

 

 

فمن يعملُ لِلحُبِّ هُوَ كمَنْ يَتحَضَّرُ للمَوتِ وتتحَكّمُ فيهِ القيامة. إنَّ الآخرُ هوُ المَركبُ الذي أعبُرُ بِهِ إلى الضّفةِ الأخرى، إلى حياة الله. لكي نعي حاجَة القريب لا بُدَّ مِنْ أنْ نُدْرِكَ سِرَّ الإنجيلِ يسوع المسيح. هناك خطر أنْ يُصبِحَ المسيحُ أحدَ الأشياءِ الكثيرةِ التي نُحِبُّها. ولسنا مُسْتعِدِّين لبيعِ كُلِّ شيء لنتبعَه. لذلك عندما تكونُ قلوبُنا مُنقسِمَة، نتقدَّمُ ببُطءٍ كبيرٍ في مَعرِفَتِنا لِسِرِّ المَسيح. لهذا يُعبِّرُ القدِّيس أوغسطينوس عنْ رَغبَتِهِ في المسيح بعدَ أنِ التقاه:

 

 

أخيرًا أحْبَبْتُكَ أيُّها الجَمالُ الشَّديدُ القديمُ والجديدُ معًا. أخيرًا أحْبَبْتُكَ لأنَّ نظرَكَ كان عليَّ وأنا في الخارج. بَحثتُ عنكَ في الخارج وفي عدمِ مَحَبَّتي، ارتميتُ على تلك الأشياءِ الجميلةِ التي صَنَعْتَها. كنتَ معي ولمْ أكُنْ مَعَك. لقد استولتْ عليَّ تلك الأشياءُ ومَنَعَتْني عنك، وهيَ لو لمْ تكنْ فيك، لـَـما وُجِدَتْ ولـَـما كانتْ. دَعوتني وصرَخْتَ إليَّ وكسرْتَ صَمَمي. أرسلتَ نورَ إشراقِكَ عَليَّ فطردْتَ عَمايَ".

 

 

إنَّ موسى والأنبياء هُم الكنيسة التي اسنِدَتْ إليها كلمَة اللهِ في الكتابِ المُقدَّسِ الذي يُحَذ ِّرُنا دَومًا بِكَلمَتِهِ الحَيَّة: "... فامْشوا بِالنّور ما دامَ لكُم النّور لِئلاّ يُدرِكَكُم الظلام" (يو12/ 35). إنَّ الحياة المَسيحيَّة هي في جَوهَرِها ديانة الرَّجاءِ وديانة الفُرصَة الثانيَة أيّ التّوبَة. هذه الفسحَة التي يعطينا إيّاها الله بعدَ أنْ نكون بَدَّدْنا الفُرصَة الأولى.

 

لذلك يقول إسحق السُّريانيّ: "هذه الحياة أعطيت لنا من أجل التوبة، فلا نبدّدها في مساعٍ باطلة". إنَّ ما يُوصِلني إلى جَهلِ الله، هُوَ جَهلي لِلكتابِ المُقدَّسِ الذي يتجلّى فيه كلامُ موسى والأنبياءِ والذي وحدَهُ يستطيعُ أنْ يُدخلـَـنا إلى سِرِّ الله، وهذا ما أوصى بِهِ بولس تلميذِهِ تيموتاوس قائِلاً: "وتَعلّم الكُتُبَ المُقدَّسَة مُنذ نُعومَةِ أظفارِك، فهي قادِرَةٌ أنْ تَجعَلك حَكيمًا فتبلغ الخَلاصَ بالإيمانِ الذي في يسوعِ المَسيح" (طيم 3/ 15). هذا ما يفعله المَسيحيُّون طيلة حَياتِهِم. لذلك نرى هذه الكِتابة على صورةِ القدِّيس نعمة لله الحَردينيّ بالسُّريانيّة: "وحشخ عيناي من قريونو دكتوبه قديشه"، أيّ شَحَّ نَظَرُنا مِنْ قراءَةِ الكُتُبِ المُقدَّسَة". ويقولُ شارل مالك: "أُشْفِقُ على الذين لا يقرأون ويَعيشون الكِتابَ المُقدَّس".

 

 

كاهِنٌ ألمانيُّ الجِنسيَّةِ اشتهرَ بِعلمِهِ وثقافتِهِ وشُهْرَتِهِ بإلقاءِ المُحاضَرات اللّاهوتيَّة. وهوُ في قِمَّةِ نَشاطاتِه، كانت مُفكّرَتُهُ مَمْلؤةً لِمُدَّةِ سنَةِ وَنِصْف مِن النّشاطاتِ المُتلاحِقة المُتَراصَّة. وفي إحدى اللّيالي شَعَرَ بِوَجَعٍ وألمٍ كبيرٍ فنُقِلَ إلى المَشفى القريبِ وأجرِيَتْ لهُ عمليَّة جِراحِيَّة طارِئة، فسقطَتْ كُلَّ مشاريعِهِ وتصامِيمِه. وبعدَ فترةٍ مِن الإتِصالاتِ بهِ خَيَّمَ هدوءٌ حَوله، واستُغْنِيَ عَنه، وكان في فترةِ نقاهَتِهِ قدْ تعَلّمَ دَرْسًا مُهِمًّا وهوْ أنْ يَترُكَ بعضَ الفسحاتِ البيضاءَ في مُفكّرَتِهِ غير مُحَبَّرَة. هذهِ الفُسُحاتُ هي دورُ الآخرِ في حياتِنا، فإذا تناسَيْنا دورَهُ فلا بُدَّ مِنْ أنَّ الله يُذكّرُنا بِهِ سَريعًا وهذا ما يَجِبُ أنْ يُثيرَ انتباهَنا.

 

لا شيءَ يَحِلُّ مَحَلَّ الإهتمامِ الشّخصِيِّ بالمُتألّمين الذين يَتألّمون صامِتين، بالذين يعيشون وحْدَهُم وهم ينتظرون مِنّا بعضَ الحُبِّ أكثرَ مِمّا ينتظرون مِنّا المال. لذلكَ حَدَّدَتْ كُلُّ العُلومِ اللّاهوتيَّة ومِنها الفسلفيَّة أنَّ الإنسان كائِنٌ علائِقيّ "شحّادُ حُبّ". وكما تقولُ الأغنية في الإنكليزيّة: "إنّك تبقى لا شيء إلى أنْ يأتي أحَدٌ ويُحِبُّك".

 

إنَّ إنجيل اليوم لا يدعونا إلى نبذِ المالِ لأنَّ المالَ ليسَ بِشَرّ، ولا يَدعونا إلى إعتناقِ الفقر، لأنّ الفقرَ ليسَ بِخلاص. بلْ يُعلّمُنا أنْ نُحِبَّ وعندما نُحِبُّ نعي ما يُرَدِّدُهُ بولسُ الرّسول في إحدى رسائِله: "فقد تعلّمت أن أقنع بما أنا عليه، فأحسِنُ العيشَ في الحِرمان، كما أحْسِنُ العيشَ في اليُسر، ففي كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ شَيءٍ تعلّمْتُ أنْ أشبَعَ وأجوع، أنْ أكون في اليُسرِ والعُسر" (فل 4/ 11-12). هذه هيَ الحَرِّيَّة المسيحيَّة حُرِّيَّة أنقياءِ القلوبِ وفقراءِ الرُّوح، حُرِّيَّة الذين يعرفون ما يُريدُونَهُ مِن الغِنى ويُجاهِدون في سبيلِ الفُقراءِ بِعَزيمَةٍ وإصْرارٍ فريدَيْن. لأنَّ مَنْ اختارَ الله فبِاللهِ يَغتَني وبِاللهِ يَكْتَفي.

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير

 

1. ما الأثر الذي يتركه في نفسي هذا القول: "ولكن إذا مضى إليهم واحدٌ من الأموات يتوبون". هل يولّد فيَّ هذا القول الوجوديِّ والكيانيِّ الرَّغبَة إلى التّوبَة، قبل فواتِ الأوان؟

 

2. أمام هذين العالمين المتناقضين اللذَين يضعهما أمامي إنجيل اليوم: عالم الغني الذي يوحي بالرُّعب، وعالم لعازر الذي يوحي بالسَّلام. ما الذي يجب عليّ أن أقوم به وأقرّره؟

 

3. ما هي المقدّرات التي وضعها الله في حياتي؟ وما هي المقدّرات التي وضعها روح هذا العالم أمامي؟ هل عندي شجاعة العطاء لأضحّي بالواحدة في سبيل الأخرى؟ ما هي الصعوبة التي تستعبدني وتمنعني من تحقيق ذلك؟

 

 

صلاة

 

أنِرْ يا ربُّ ظلمة كيانِنا وافتحْ عيونَنا على حاجةِ كُلِّ إنسانٍ أضحى بعوزٍ إلى نظرةٍ صادقةٍ وصادِرَةٍ عَن حُبِّنا له. اجعْلنا نُقدِّرُ كرامة دعوتِنا المسيحيَّة السامِيَة ومسؤولياتِها الكثيرة. إجعلْ توبَتنا خُبزَنا اليوميَّ ليغدُوَ طريقُنا آمِناً إليك. هَبْنا الحِكْمَة لكي نَغْتنيَ مِنْ كلمَةِ إنجيلِك ونُعلِن حَقيقتك. إمْلأ عُقولنا مِنْ روحِك فنَنْبُذ كُلَّ المُغْرَياتِ الدُّنيويَّة التي تجتاحُ حياتنا وتمنَعُنا مِنْ أنْ نَصِلَ إليك. أسكِت أنانيتنا وخوفَ نفوسِنا بلطفِ سلامِك. أسكُبْ بلسمَ خلاصِكَ على أنفسِ المَوتى الرَّاقدين على رجائِك ليَحْظوا بغفرانِك ورحْمَةِ حُبِّك، لكَ المَجْدُ إلى الأبد. آمين.

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.