في العنصرة انقلب موقفهم منه إلى إيمان به

أضواء

في العنصرة انقلب موقفهم منه إلى إيمان به





هل فهم التلاميذ معلّمهم؟


لازم تلاميذ يسوع معلّمهم كلّ أيّام حياته. وفي الأزمنة القديمة كان المعلّم، أي معلّم، سواء أكان معلّمًا دينيًّا أم معلّمًا دنيويًّا، يخالط تلاميذه في الصّميم ويكاد يُعايشهم، وكان له مكانةً عندهم إلى حدّ بعيد.


جمعتْ صِلاتٌ حميمة بين يسوع وتلاميذه، فكانوا "ذويه"، يعيشون معه عيش جماعة وثيقة الرّوابط. حسبنا أن نذكر أنّنا لم نجد الربّ وحده. يومًا دون رسله، ما عدا ساعاتٍ وليالٍ بكاملها يقضيها على انفراد يصلّي.


 إنّهم دائمًا حاضرون يستمعون إلى تعليمه باهتمام. وكثيرًا ما يتاح لهم أن يدقّقوا النّظر في مواقفه من الناس، من الأغنياء، من الفقراء، من المرضى، ومن المكروبين، من طالبي إرشاد؛ كما ويواكبونه في رحلاته، ويشاركونه في طعامه، ويرافقونه إلى مأدبة أو وليمة، ويرون وجهه، ويسمعون صوته، ولا يفوتهم شيء من حركاته وسكناته، ولذا فبوسعنا أن نعتقد أنّهم فهموه حقّ الفهم، على الأقلّ في كلّ ما هو من جوهر الأمور، وإن فاتهم بعض الدقائق والتفاصيل؛ كما وبوسعنا أن نعتقد أنّهم عرفوا عن شخصه من هو، وماذا يريد؛ وإنّهم كانوا معه على الوفاق التامّ في الباطن. لكن دهشُنا هو عظيم عندما نرى، طوال صفحات الإنجيل، أنّ ذلك لم يكن الواقع الراهن.


لم يفهموه لأنّهم لم يؤمنوا به


وقد يقول قائلنا أنّ التّلاميذ لم يعايشوا معلّمهم وقتًا أطول، وإنّ شخصه كان أعظم قدرًا، ورسالته أكثر إثارة من أن يتوصّلوا، في وقت كهذا قصير، إلى فهمٍ كاملٍ لكلّ شيء. وقد يُضيف قائلنا أنّ مدخلاً على الأقلّ قد فُتح أمامهم إليه، فتقدّموا فيه تدريجيًّـا؛ وإنّهم أعملوا الفكرة في كلّ ما عرفوا عنه، فتبادلوا فيه الآراء والخواطر؛ وإنّهم طابقوا حياتهم على كلّ ما شاهدوا منه وسمعوا؛ فأدركوا إدراكًا أعمق شخص يسوع ورسالته.


لكن ذلك أيضًا لم يكن الواقع المُنتظر. هنا بلغنا بالقضيّة إلى جوهرها: أنّ عدم فهم الرّسل للمسيح لا يشبه عدم فهم إنسان أخفق في مهمّة تفوق طاقته. والحقيقة أنّ الرّسل لم يقفوا من الربّ الموقف الوحيد الذي يمكّنهم من رؤية الأشياء على حقيقتها: لم يكن فيهم الإيمان حقـًّا. إلاّ أنّ ذلك لا يُنسينا تعلّقهم به وتفانيهم في خدمته، "إنّهم يتركون كلّ شيء ويتبعونه" (متى 19/ 27 - 29). ومع ذلك فإنّ ما تخلو منه استعداداتهم هو الجوهر: إنّهم لا يرون فيه ذلك الذي هو ما هو بالحقيقة.


علينا هنا أن نُحدّد بدقّة معنى الكلمات التي تعبّر عن هذا الجوهر. فالإيمان لا يعني فقط معناه في الكتاب المقدّس: الثقة الدينيّة، التوقير والاحترام، الإنقياد والطاعة، الإستسلام إلى المُعلّم الرّوحي، لكن شيئًا آخر محدّدًا هو الموقف الذي يقتضيه المسيح تجاهه وتجاه الله الذي يتكلّم باسمه. كلمة "إيمان" لا تدلّ على فكرة عامّة تعبّر عن صِلات تلاميذ تجاه رسول ديني، سواء أكان بوذا، أم زرادشترا، أم موسى، أم أخيرًا يسوع.


 كلمة "إيمان" تنطبق على حقيقة واحدة فريدة: الموقف تُجاه يسوع المسيح، ابن الله المُتجسّد. فبذلك يبدأ إنقلاب القيَم الموضوعة، وتغيّر القلوب، وتجديد الفكر، على ما لا يفتأ بولس يشير إليه. فإنّ تلاميذ يسوع قد خلوا ممّا قام به جوهر الإيمان فأعطى عدم فهمهم للمسيح كلّ أبعاده.

في العنصرة انقلب موقفهم منه إلى إيمان به.


دعونا الآن ندقّق النظر في موقف للرّسل ولمّا يمضِ على موت يسوع أيّام قلائل. ها بطرس يقف أمام الشّعب الهائج، المُحتشد يوم العنصرة تُجاه بيت مرقس، وهو يتلهَّف إلى معرفة ما حدث (أعمال 2/ 14 وما يلي)... فإن نسمعه الآن يتكلّم، نظنّ أنّنا نسمع رجلاً غيره يتكلّم، ليس فقط لأنّه غدا شجاعًا، أو أكثر إدراكًا، لكن لأنّه اتّخذ تُجاه يسوع موقفًا جديدًا، وهو يشبه بذلك رجلاً حصل على الإيضاحات الأخيرة، فهو يشهد لها؛ وقد أُعطي القدرة الآن، فهو يعظ بسلطان.


إنّه لا يتكلّم عن يسوع، لكنّه على اتّصال معه، وبه، وقد تغيَّر موقفه من يسوع جذريًّا، وهو نفسه صار رجلاً آخر. فالذي كان يبحث، ويستسلم، ويسأل، صار مؤمنًا وواعظًا... من أين أتاه ذلك؟ ليس من ثمرة التفكير، ولا من الخبرة، أو عودة رباطة الجأش بعد هزيمة طويلة. هي الكلمات التي منها انطلقنا تأتينا بالتفسير الحقّ: الرّوح القدس جاء، "فأخذ وأعطى" المسيح وما هو للمسيح (يوحنّا 16/ 15).


كيف تجري الأمور، على وجه العموم، في مجال المعرفة؟ هل تكون مطروحة في الشارع؟ على متناول أوّل عابر سبيل؛ أم يجب على من يرومها أن يتمِّم شروطًا ويسترشد بآراء؟


من إذًا يعرف الحقيقة السرّيّة، المُفعمة حياةً، وموتًا، ذات القدرة العظيمة، واللّغز الدفين، التي نسمّيها "الطبيعة"؟ يعرفها من يعيشها، وهي  تُفلت ممّن ليس فيه حاسّتها سيكون بوسعه أن يصنع فيها إختبارات، ويدرس منها تاريخها الطبيعيّ.


لكنّه لن يعرف الكلمة الأولى من الطبيعة نفسها... من يفهم الموسيقى؟ يفهمها مَن يحملها في أعماق كيانه، سيكون بوسع غيره أن يفهم الكثير الكثير عنها، على يد من هم معلّموها البارزين، وقد يتوصّل فيها إلى بعض الرّشاقة والمَهارة، لكن فهمها سيبقى مُغلقـًا دونها إلى الأبد... من يُدرك الوجود البشريّ العظيم؟ يدركه من كان فيه شيءٌ عظيم، شوق عظيم إلى إدراكه. وإلاّ فإنّه يجمع عنه أحداثًا وأفعالاً، ويبقى منه الجوهر مُغلقـًا دونه... نجد هنا مثل ذلك، بل مثل ذلك إنّما هنا نجده، وبنوع خاصّ. فذاك وحده يستطيع أن يُدرك المسيح، من عاش في المسيح، وفي كلّ ما هو للمسيح.


من أين جاء المسيح؟ وما الذي يجعله يحيا؟ وبأيّ قدرة يعمل؟ بقدرة الرّوح القدس يعمل، وبقدرة الرّوح القدس دخل التاريخ: "إنّ الرّوح القدس يحلّ بك، وقدرة العليّ تُظلِّلُك. لذلك يكون المولود قدوسًا وابن العلي يُدعى".


 تلك هي أقوال الملاك لمريم (لوقا 1/ 35). وعندما باشر يسوع رسالته العامّة، وقد تعمّد في الأردنّ، حلّ فيه ملء الرّوح (متى 3/ 17). وكان الناس يشعرون شعورًا متزايدًا، من خلال أقواله وأعماله، بقدرة روح الله السريّة. ولكي "يعرف" الإنسانُ المسيحَ، أي يؤمن به، يجب أيضًا أن يأتي هذا الرّوح إليه، أن يفتح له حاسّةً جديدة باطنيّة تصله بالمسيح.


هو الرّوح القدس مُنشئ الإيمان


هو الرّوح القدس إذًا مُنشئ الإيمان؛ والإيمان الذي ليس تعمُّقـًا، وإنماءً، وتنقية ً للإيمان الطبيعيّ وحسب، لكن هو الجواب الخاصّ الذي يعطيه المدعوّ لشخص المسيح وكلامه.


فإنّما يؤمن الإنسان، على حدّ قول الكتاب، إذا ما آمن بالمسيح. ويقتضي هذا الإمكان أن تنبعث في هذا الإنسان حياة جديدة هي من عمل الإيمان. ويقول يسوع صريحًا، على ما ورد في إنجيل يوحنّا، في الخطب المعروفة بالمجادلات الكلاميّة: إنّ ذاك وحده يفهمه ويحبّه من يولد من الله: "فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لأحببتموني، لأنّي من الله خرجت وأتيت. وما أتيت من نفسي، بل هو الذي أرسلني. لماذا لا تفهمون أقوالي؟... فإذا كنت أقول الحقّ فلماذا لا تصدّقوني؟ من كان من الله سمع كلام الله. فإذا كنتم لا تسمعون فلأنّكم لستم من الله" (يوحنّا 8/ 42 - 47).


 فالإنسان الذي ينطلق من نفسه ليس بقادر على الإيمان، لأنّ الإيمان هو فعل إنسان جديد يجب أن يكونه الإنسان أوّلاً ليجعل فيه الإيمان ممكنًا. لكن هذا الإنسان الجديد لا يأتي إلاّ من الله أو، بكلام أدقّ، من الرّوح القدس. "ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلاّ إذا ولد من الماء والرّوح" (يوحنّا 3/ 5). لكنّ الإنسان لا يدخل ملكوت السماوات إلاّ بالإيمان.


من هو الإنسان الرّوحي؟


الرّسول الحقّ للوجود المسيحيّ هو القدّيس بولس. فرسائله تصفّ، من البدء حتى التّمام، الخبرة المسيحيّة: ماذا يعني أن يكون المرء للمسيح؟ وماذا يعني أن يحيا المرء حياة مسيحيّة؟ وإنّ ما يقوله بولس عن الإنسان "الرّوحيّ" بالمُقابلة مع الإنسان "اللحميّ" لرائع حقـًّا (1 كور 2).


 فـ "الرّوحيّ"، بحدّ قوله، لا يُناقِض الجسديّ، ولا الباطنيّ يُناقض الخارجيّ؛ لكنّه يعني بذلك أنّ الوجود المُفتدى، وقد تجدّد بفعل الرّوح القدس، يتعارض والوجود القديم الذي لم يتجدّد. فالإنسان كلّه: جسده ونفسه، باطنه وخارجه، أكله وشُربه، كما والعلم، والموسيقى، وكلّ شكلٍ آخر للحضارة، دون استثناء ضمير الإنسان، وأخلاقه، وحبّه، كلّ ذلك هو "لحميّ"، لكن كلّ ذلك أيضًا يجب أن يصير "روحيًّا"، بالمعنى البولسيّ للكلمة: عقله، وإرادته، وأعماله، وعواطفه، وحياة جسده، إلخ.


 ثمّ يقول بولس: إنّ الإنسان الرّوحيّ لسرّ عظيم، وإنّ بوسعه أن يدين الإنسان اللحميّ. لكن ليس بوسع العالم أن يفهمه. لا يعني ذلك أنّه أكثر ذكاء، أو أبرع مهارة، أو أبعد استقلالاً خلقيًّـا، أو أقوى شخصيّة ً، من الآخرين؛ كما ولا يعني أيضًا أنّ الآخرين ليس بوسعهم أن يفهموه لأنّه يأتي بأشياء عجيبة، أو يُدافع عن آراء أصيلة، أو يكنّ نيّات خفيّة، ما شابه ذلك.


 كلاّ! لكن لأنّه، بنعمة افتداء يسوع المسيح له، يفوق العالم، فالإنسان الرّوحيّ يعيش من العالم في فلك عالٍ ليس فيه أي إنسان من العالم، فلك الفداء الذي تمّ بموت المسيح الظافر؛ وبوسعه، على قدر ما هو مسيحيّ، أن يدين العالم حقـًّا، مهما كان عليه، في جهّة أخرى، من البساطة، والفقر، والجهل. وهو، بالفعل ذاته، "خارج عن العالم"، وبالتالي لا يستطيع العالم أن يدينه، لأنّه لا "يراه"؛ لا يرى منه إلاّ الإنسان، وقد يُضاف إلى الإنسان شيء مُستغرب، ومُقلِق، حتّى ومثير، ممّا لا يدري ما هو، وممّا لا يستطيع معرفته إلاّ بارتداده، وبالفعل نفسه بتحوّله عن العالم...


ونعتقد أنّنا نؤدّي فكرة بولس في هذا الشّأن بدقّةٍ إن قلنا أنّ المسيحيّ هو صورة، بتشبُّه مَجّاني، للمسيح. وإن ما قلناه في هذه التأمّلات عن مواقف مُعاصريّ يسوع تجاهه يصحّ أيضًا قوله، إلى حدّ ما، عن مواقف غير المؤمنين. والحال أنّه ليس من سبيل إلى إدراك المسيحيّ وفهمه إلاّ بنعمة من الرّوح القدس، لأنّ الحياة المسيحيّة لا يمكن إدراكها وفهمها إلاّ بالإيمان.


هل هذا الذي نقوله تبجّح منّا وادّعاء؟ كلاّ! فنحن لا نجسر حتى على القول بأنّنا مؤمنون. إلاّ أنّنا نرجو ذلك رجاءً، ونعلم أنّنا لا نستطيع أن نكونه إلاّ بـ "خوف ورعدة" (فيليبّي 2/ 12). وعلى كلّ، فالكلام لا يدور هنا عن غنم شخصيّ نحصل عليه بقدر ما نكون مهرة، أذكياء، أسخياء، أو شيئًا من هذا النَّوع. ففي كلّ ذلك قد يكون المسيحيّ دون غيره من الناس. فليس هناك ما يدعو إلى "المُفاخَرة" (2 كور 11/ 18).


 فكلّ ما في المسيحيّ يأتي من الله، وخاصّة على شكل واجبات نقوم بها في الحياة الجديدة. فالولادة الثانية التي ورد ذكرها ليست بشيء سحريّ، أو تدرّبًا على أسرار مكتومة، أو إشادة بالمعرفة الباطنيّة: إنّ هي سوى ارتداد. فإن كان العماد يضعنا عند مدخل عالم جديد، فالوجود المسيحيّ يدعو إلى ولوج هذا العالم باطّراد؛ يدعو إلى مُطابقة الفكر بفكر المسيح؛ يدعو إلى موافقة الأحوال لأحواله؛ يدعو إلى تحويل الحياة إلى ما يُشبه حياته. من يَجسُر على الإدّعاء بذلك؟


وما هي الحياة المسيحيّة؟


لا تقوم الحياة المسيحيّة بأن نتأمّل بالمسيح عن بُعد فيما هو على الشاطئ الآخر؛ أن نفكّر فيه؛ أن نعزو إليه الحقّ؛ أن نُقرّر اتّباعه. فعلى هذه الصّورة لن ندرك المسيح يومًا. عليه هو أن يأتي إلينا ويبحث عنّا، وعلينا نحن أن نطلب منه أن يُرسل إلينا روحه لنستطيع أن نذهب إليه، علينا أن نتجرّد عن ذواتنا، أن نلقي بأنفسنا في الماء ونحن واثقون بأنّه سيدركنا ويخرجنا إليه. فإن فكّرنا في ذلك ورجوناه، فسوف ينال لنا رجاؤنا، على الأقلّ أن نبدأ الطريق. إذ ليس بوسعنا أن نرجو منه الإيمان به إلاّ إذا كان قد سبق هو وأعطانا إيّاه بشكل من الأشكال.

                                                                            رومانو كوارديني.