أنت هو إبني الحبيب، بك أنا سُررت

أضواء

أنت هو إبني الحبيب، بك أنا سُررت





















ثلاثون عاماً من حياة محتجبة إنقضت، ثلاثون عاماً منذ ليلة ميلاد بيت لحم، منذ انحدار الرّبّ لملاقاة واقعنا الإنسانيّ. في بيت لحم اتّخذ الرّبّ جسداً مائتاً، وُلد فقيراً ليرينا كم هو قريب منّا ومن حقيقتنا. أراد أن يقول لنا أنّه يحبّنا، وأنّه معنا، لأنّه صار واحداً منّا.

واليوم، بعد حياة الناصرة الخفيّة، حيث كان الرْب ينمو مثل كلْ واحد منّا بالقامة والنعمة والحكمة، طائعاً لمريم ويوسف، بدأ المسيح حياته العلنيّة.

طالما انتظر اليهود يوم الرّبّ هذا: إنتظروا وصول المسيح المخلّص، يأتي ليرفع الظلم عن شعبه. لقد انتظروا مسيحاً قويّاً، مقاتلاً، قائداً جيش إسرائيل. إنتظروا مسيحاً معاقِباً يحرق الخطأة بنار غضبه. إنتظروه ملكاً يخلق بالقوّة ملوك الطغيان ليعيد إحياء عرش داود أبيه، ملك إسرائيل، ويوّحد يقوّة ذراعه قبائل إسرائيل المشتّتة.

لم ينتظروه مسيحاً ضعيفاً، لم ينتظروه مسيحاً ينحني أمام يوحنّا، لم يقبلوه مسيحاً يعلن ملكه لا بالسيف بل بالماء، ويغلب الشرّ لا بالحرب بل بمعموديّة التوبة.

هو منطق مسيح بيت لحم، المولود كالفقراء، لم يجد له مكاناً فحلّ في إسطبل. هو منطق مسيح البشارة، لم يجد له موضعاً يلقى عليه رأسه، هو منطق مسيح الناصرة، ظنّ أقاربه أن قد فقد العقل، هو منطق مسيح أورشليم، يحني الرأس أمام رعاع يضربونه بقصبة، يهزأون به، يقولون له متهكّمين: "تنبّأ من ضربك".

هو منطق الإنسان المسالم، يرفض قبول منطق العنف، لأنّ "من يأخذ بالسيف، فبالسيّف يؤخذ"، ولأنّ العالم لا يمكن للعنف أن يشفيه، وحده السلام، وحده الحبّ، وحدها المصالحة، يمكنها أن تشفي جراح قلبنا العنيف فتعطيه السلام.

المسيح الداخل مياه الأردنّ هو نفسه المسيح الذي يدخل عالمنا، يدخل واقعنا ويتنبّى حقيقتنا ليغيّرها من الدّاخل، يغيّرها بصمت، يلقي في حقيقتنا حقيقته، فتنمو فينا بصمت كما تنمو السنبلة، دون ضجيج، دون هتاف الإنتصار، ودون قسوة السيف وعنف الحرب. حقيقة المسيح تنمو في حياتنا وفي عالمنا بهدوء، وبسلامها تبدّل واقعنا.

لقد دخل المسيح مياه الأردن، هو غير المحتاج الى التوبة، لأنّه لم يقترف معصيّة، هو البرارة المتجسّدة، جاء يعلّمنا، يقول لنا أن الدخول في علاقة مع الآب لا يمكنها أن تتمّ إن لم نختبر معنى التوبة، معنى العودة الى الآب. بخطيئتنا فقدنا صداقتنا مع الله، وحدها التوبة تعيدنا الى حالة البنّوة. 
المسيح في نهر الأردن هو صورة كلّ واحد منّا، إنسانيّته التي دخلت مياه معموديّة يوحنّا هي صورة أنسانيّتنا المدعوّة الى التوبة والى العودة الى الله.

 معمودّية المسيح هي دعوة لنا:

دعوة الى المعموديّة، فبالمعموديّة نعلن أنّنا مُلك الله، نرفض الشيطان وكلّ تعاليمه، نعلن أنّ خيرنا الأوحد هو الله وحده. بالمعموديّة نلبس المسيح، نصبح أعضاءاً في جسد المسيح السرّي، أي أبناء الكنيسة وأعضاءها. بواسطتنا تعلن الكنيسة حبّ الله للعالم، بواسطتنا تقدّس الكنيسة العالم، بواسطتنا تعلن الكنيسة إنجيل الخلاص.

بواسطتنا نحن الأعضاء، يمكن للمسيح أن يعمل اليوم في عالمنا: بنا يعلن الخلاص، بنا يصالح العالم مع الله، بنا يشفي القلوب الجريحة، بنا يعيد بناء حياة تحطّمت. بمعموديّتنا نعلن أنّنا صرنا ملك الله ووسيلة قداسة العالم، نضع ذواتنا بتصرّ

ف المسيح ليعمل من خلالنا، نصبح، كما قال بولس "سفراء المسيح لدى الأمم كلّها". نحن الفقراء، لا نملك شيئاً، نصبح أغنى الأغنياء، لأنّنا نحمل المسيح في حياتنا، وفي جسدنا، وفي قلوبنا، ننطلق به نحو إخوتنا، ليختبروا هم أيضاً عِظَمَ المسيح وغنى محبّته.  

هي دعوة الى القداسة: معموديّة المسيح هي صورة عن حقيقة كلّ واحد منّا، نصغي لدعوة الله في قلبنا، نعود الى صوت الضمير، نقبل الله في حياتنا، نتكرّس له بالمعموديّة، نصبح له بكلّيتنا، نضع ذاتنا بين يديه، نقول له: أريد أن أكون وسيلة لك، لتقدّس الإخوة من خلالي. حلول الرّوح على المسيح في الأردن هي صورة عن حلول الله على حياتي.

كما كان روح الرّب يرفرف على الغمار في البدء، قبل أن يخلق الله السماوات، وكانت الأرض خَرِبَةً خالية، فحوّلها الله بروحه الى تحفة تمجّد الخالق بجمالها، كذلك يحلّ عليّ أنا ساعة المعموديّة، يحلّ على خراب ذاتي، وعلى الحطام الذي سبّبته خطيئتي، يحلّ على قلبي الفارغ كفراغ الوجود قبل الخلق، يحلّ عليّ فيجعلني أنا أيضاً تحفة رائعة الجمال، أعلن للكون عن جمال الله من خلال جمال النعمة التي نلتها، نعمة أن أكون إبناً لله.  

هي دعوة الى التوبة: الله لا يختار كمالي، فهو أحبّني رغم ضعفي، ورغم خطيئتي، أحبّني كما يحب الأب ابنه المريض الضعيف، يحبّني رغم سقطاتي ورغم هفواتي، يريدني أن أكون له، ليعمل في حياتي، ويبدّل ضعفي بقوّته، ويبدّل خطيئتي بنعمته. دعوة الله هي ليست لأنّي كامل، بل لأنّي ابن لله، وكمالي يتحقّق بطاعتي الكاملة لإرادته التي تقدّسني. اتّباعي لله لا ينتهي بعد المعموديّة، بل هي دعوة مستمرّة لتوبة يوميّة. في كلّ لحظة من حياتي أنا مدعو لأنّ أعود الى الله، ولأن أعلن له كلّ لحظة أنّي إحبّه، فهو دعاني لأنّه اختارني، وهو اختارني لأنّه أحبّني، وهو أحبّني لأنّه أبي، ولأنّه جعل منّي ابناً له بالمعموديّة. 


هي دعوة للدخول في علاقة مع من هو مختلف عنّي بطبيعته: المسيح نزل في المياه، فانفتحت السماوات، حلّ الرّوح بشبه حمامة، وسُمع ص

وت الآب يعل

ن: "هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررت". هذا هو سرّ دعوتنا، هذه هي حقيقة معموديّتنا.

المسيح في المياه هو صورة كلّ واحد منّا: بمعموديّتنا ننال قوّة الرّوح ونعمة مواهبه، بمعموديّتنا تنشق السماوات، أي أنّنا نصبح قادرين على الدّخول في علاقة مع الله. لقد حطّم الله الحواجز بين ألوهيّته وإنسانيّتنا حين خلقنا واختارنا لنكون شركاء حبّه فسلّط الإنسان على الخليقة بأسرها.

وحطّم الحواجز حين غفر خطيئتنا، ودخل في عهد معنا، من خلال العهد الذي أقامه مع إبراهيم أب الشعوب كلّها، ليقول لنا أن رغبته ت

تحقّق في أن تدخل الشعوب كلّها في علاقة بنوّة معه وفي علاقة أخوّة مع بعضها البعض. والحاجز الأعظم الذي حطّمه الآب، هو "جدار الفصل" بين طبيعتنا وطبيعته، حين أرسل ابنه متجسّداً من إمرأة، صار مثلنا، وصرنا قادرين على أن ندخل في علاقة معه. لقد صار إنساناً ليصبح الإنسان إلهاً.

بالمعموديّة تتحقّق في حياتنا الشخصيّة إمكانيّة الإتّحاد بالحبّ الإلهيّ، فبالمعموديّة نصبح أبناء الله، نسمع صوته يقول لنا: أنت ابني الحبيب. يفرح قلب الآب بنا، ويُسرّ بأن قد وُلد له بالنعمة وبالرّوح القدس إبن جديد. هذا هو سرّ المعموديّة، هذا سبب دخول المسيح اليوم في مياه الأردنّ.

فهل نعي في حياتنا هذه الحقيقة؟ هل ندرك عظمة حبّ الله لنا؟ هل نفهم كم أنّنا نجرح قلب الله الذي أحبّنا بإصرارنا على البقاء في خطيئتنا؟ هي دعوة لنا لأن نتوب، لأن نعود الى الآب، لأنّ المسيح قد فتح لنا باب العودة الى حالة البنوّة. هي دعوة لنا لأن نحافظ على شرف معموديّتنا، فلا نرمي جواهر الرّوح القدس في أوحال خطيئتنا. هي دعوة لنا لأن نعود الى الآب في حال سقطنا، وتعبنا، ويئسنا، فالله يحبّنا وينتظرنا، ينتظرنا ليغفر لنا، ليضمّنا الى قلبه، ويهمس أذننا من جديد: أنت هو إبني الحبيب، بك أنا سُررت.

الأب بيار نجم ر.م.م.