بعد مسيرة ستّة أسابيع من زمن الصّوم، وقد استنرنا خلالها بكلمة الله، وتجدّدنا بالصّلاة وتوبة القلب، ومارسنا أعمال المحبّة والرّحمة، نستقبل اليوم المخلّص الإلهي، يسوع المسيح، ملك السّلام، كما استقبلته الجماهير عفويًا يوم دخوله أورشليم، وكان دخوله متزامنًا مع عيد الفصح اليهودي، الّذي يمتدّ ثمانية أيّام قبل بلوغ ذروته في العشاء الفصحي ويوم العيد (يوحنا 12: 12-22).
1. "في الغد" هو بالنسبة لليوم الّذي زار فيه يسوعُ لعازر في بيت عنيا، وكان قد أقامه من بين الأموات. وكان ذلك قبل عيد الفصح بستّة أيام (راجع يو 12: 1). كان العيد يوم السّبت، وبالتّالي دخل يسوع إلى أورشليم في يوم الأحد. وقد شاء في سرّ تدبيره الإلهي أن يكون الأحدُ يومَ الرّب، لا السّبت. وهكذا كانت القيامة فجر الأحد. ورتّبت الكنيسة ليتورجيًّا الأعياد السّيديّة أيام الأحد، مثل الميلاد والعنصرة، بالإضافة إلى الشّعانين والقيامة.
"الجمع الكثير" تواجد في أورشليم بسبب عيد الفصح، وبسبب الشّهرة الّتي كسبها يسوع بعد أن أقام لعازر من بين الأموات. وذاع خبر مجيئه إلى العيد.
عيد الفصح اليهودي هو أكبر الأعياد لديهم. تدوم احتفالاته ثمانية أيّام. يحجّون خلاله من كافة أنحاء البلاد، لا بل أيضًا من بلاد الشتات، من مصر وتركيا واليونان وروما وغيرها. يتجمّع الأهلون والأقرباء في هذه الأيّام ليحتفلوا سويًّا. يمكننا تصوّر الجوّ العارم بالحماسة والمشاعر العائليّة والدينيّة. في مثل هذا الجوّ، كان الكلّ منشغلاً بأموره ومع أناسه. فخضّ وصول يسوع المدينة بأسرها. فمعه بدأ العيد الحقيقيّ وبدأت احتفالات غير مسبوقة. فيسوع هو العيد.
هذه دعوة لنا في فترة الأعياد هذه، أن نسائل أنفسنا ونفحص ضميرنا: ما هو سبب فرحنا؟ بماذا نحتفل؟ هل نغرق في الأمور السطحيّة أو الماديّة ونتناسى ربّ العيد؟ هل يسوع ما يزال مصدر فرح عامر في حياتنا؟ فرح قادر على إزالة كلّ همّ وكُربة، وعلى تذليل كلّ الصعاب.
2. ما إن سمع الناس أنّ يسوع آت إلى أورشليم حتى حملوا أغصان النخل والزيتون وخرجوا لاستقباله" هاتفين: "هوشعنا، مبارك الآتي باسم الربّ، ملك إسرائيل" (الآية 13). إنّها حركة نبوية: فأغصان النخل ترمز إلى الملوكيّة والانتصار. وبها يُستقبل الملوك. كان اليهود يرون في يسوع شخص المسيح الأرضيّ والمحرّر السياسيّ. صيحة "هوشعنا" الواردة في المزمور ١١٨: ٢٥، تُترجم "خلّصْنا يا ربّ" "نا" في نهاية الكلمة هي للترجّي. هو الشعب يضع كلّ رجائه في الربّ المخلّص الوحيد. وفي العهد الجديد، تحوّلت هذه الصيحة من مجرّد "طلب واستغاثة" إلى إعلان فرح بأنّ الخلاص المنتظَر منذ قرون هو حاضر الآن بيننا. إذًا يقول الناس ليسوع أنت هو المنتظَر، أنت هو الآتي باسم الربّ الموعود من الأنبياء. أنت هو المسيح. ولكن، يختمون هذا الإعلان الرائع بكلمة يمكننا فهمها بطريقتين: "ملك إسرائيل". فأيّ ملك ينتظرون؟ ملك حرب ضدّ الاعداء أم ملك سلام؟ بعد أربعة أيام انكشفت النوايا الحقيقيّة. لقد أرادوه ملك حرب فخذلت آمالهم. ففي مساء الخميس، سوف نرى الجمع نفسه، والمشهد نفسه منقلبًا، وهم يصيحون ويصرخون: "إصلبه، إصلبه".
3. دخل يسوع أورشليم ملك سلام. فكانت أغصان الزيتون تدلّ عليه. لقد دخل المدينة راكبًا على جحش (الآية 14)، فيما ملوك الأرض يدخلون مدنهم على أحصنة. وبذلك طبّق الآية من نبوءة زكريا: "لا تخافي يا ابنة صهيون! هوذا ملككِ يأتيكِ راكبًا جحشًا ابن آتان! (الآية 14 و15؛ زكريا 9:9).
إنّ تصرّف يسوع هذا ردٌّ على ما فعله الشعب. هو رفضٌ للملوكيّة الأرضيّة. يسوع ملك، ولكنّه ملك سلام ومتواضع. لا يستعمل سلطانه لمصالحه الشخصيّة، كما يفعل الملوك الأرضيّون عامّةً. باستعماله الجحش، يريد أن يُحلّ السلام. ونفهم هذا المعنى من قراءة أخرى في نبوءة زكريا، تقول: "وأقطع المركبة من أفرائيم والفرس من أورشليم وتُقطع قوس الحرب ويتكلّم بالسلام للأمم" (زك ٩: ١٠). إذًا، استعمال الجحش ليس فقط علامة تواضع بل أيضًا إعلان للسلام ورفض للحرب. فالفَرس كان يُستعمل في الحرب. كما يقول سفر الامثال: "الفرس مُعدّ ليوم الحرب. أمّا النصرة فمن الربّ" (أم ٢١: ٣١). يُعلن يسوع منذ الآن أنّه سيجابه شرّ اليهود بالسلام وبالاتّكال الكامل على الله، إتمامًا لمشيئته. وبهذا، سيُسلم نفسه للصلب، فداءً عن البشر. يحمل يسوع صليبه منذ الآن. لا ينغشّ بالاحتفال ولا ببهرجات هذا العالم. قراره واضح: الالتزام بمشيئة الله.
4. تواصلًا لهذا المشهد الأورشليمي، كان زياح الشعانين الذي يقام في كلّ الكنائس ويشارك فيه الكبار والصغار. وتُعتبر الشعانين عيد الأطفال. فيخرجون بشموعهم المزيَّنة والمضاءة، وبثيابهم الجديدة.
نحن اليوم نسير وراء يسوع مسيرة السلام، رافضين الحرب، بكلّ أنواعها. ليس فقط الحروب بين الدول، بل أيضًا النزاعات والخلافات بين الأهل والأقارب، في القرية والرعية، في البيت بين الرجل وزوجته وبينهما وبين أولادهما. ليس بالعنف تُكتسب الحقوق، بل بالسلام والعدل والقانون. العنف دمّر لبنان كما يدمّر اليوم سوريا والعراق واليمن. وليس شيء غير القانون يمكنه أن يُنهض لبنان وهذه البلدان. العنف بين الزوجين يؤدّي إلى الانفصالل البغيض. العنف مع الأولاد يؤدّي بهم إلى رفض والديهم. السلام هو دومًا السلاح الأقوى.
البشرى التي حملها يسوع للعالم، الشيء الجديد الذي علّمنا إيّاه، هو أنّ المحبّة والسلام أقوى من السلاح. المحبّة، إذا كانت صادقه، تكون قادرة على الانتصار، وعلى تغيير القلوب. ليست المحبّة تضحية فارغة وليست خسارة للحقوق. بل هي مشروع ناجح، ولكن ليس كمشاريع البشر. العقل وحده لا يقدر على فهم هذه المعادلة. لأن قوّة المحبّة لا تقاس بمعايير البشر. قوّة المحبّة تكمن في أنّ الله حاضر في قلب المحبّ وهو من يدافع عنه. من يدخل في هذا المشروع يختبر كلّ يوم كيف يفتح الربّ أمام المحبّ كلّ الدروب المقفلة. يشهد بعينيه "أعجوبة المحبة" التي يفعلها يسوع كلّ يوم وفي كلّ لحظة.
يجب على الوالدين أن يعلّموا أطفالهم معاني عيد الشعانين. فلا تقتصر مشاركتهم في العيد على التقاط الصور، وتبادل الأحاديث. بل فيعلّموهم انّ الربّ يسوع هو محور العيد، بل هو نفسه العيد، وأنّ فرحهم ينبثق من يسوع، وأنّ الفرح الحقيقي هو فرح بالربّ.
5. لمّا رأى الفرّيسيّون هذا الاستقبال الشعبي الجامع، استشاطوا غضبًا، وقالوا بعضهم لبعض: "إنّكم لا تنفعون شيئًا. ها هو العالم كلّه يتبعه!" (الآية 19).
فشعبيّة يسوع تخطّت كلّ التوقّعات. فالهاتفون له ليسوا فقط من سكان أورشليم واليهوديّة والجليل، بل من كلّ البلدان المحيطة. ولكن ما احتفال الناس به، بهذا الشكل النبوي في فترة الفصح، سوى اعتراف ضمنيّ أنّه هو الفصح، وهو بالتالي الربّ المخلّص. نرى كيف أنّ رسالة يسوع التبشيريّة إلى سائر الأمم قد بدأت فعليّاً.
6. الفرّيسيون هم نوعًا ما حزب سياسيّ. له مصالحه الخاصة. لم يكونوا من النبلاء، كالصادوقيّين. ولكنّ عددهم كان يتزايد يومًا بعد يوم. وكانوا يتهيّأون لخوض انتخابات المجمع، السنهدرين، وهو أشبه بمجلس النواب اليوم. كانت خطّتهم قلب المعادلات وربح أغلب مقاعد المجمع، الذي كان تحت سيطرة الصادوقيّين. لذلك، مع دخول يسوع إلى أورشليم بهذه الطريقة الاحتفالية، وتقاطر الناس حوله، خاصّةً بعد أن أقام لعازر من الموت، بدأوا يشعرون بأنّ يسوع يشكّل لهم منافسًا سياسيًّا قويًّا. ويرون فيه ذلك الملك الأرضيّ الذي سيشنّ حربًا على جميع أعدائه، كي يملك سعيدًا على العرش ويحكم البشر. هذا الأمر سيقودهم إلى التحالف، بعد ثلاثة ايام، أي يوم الأربعاء، مع أعدائهم الصادوقيّين، للتخلّص من يسوع، شرط تقاسم المقاعد في السنهدرين.
7. ومن جهة ثانية كانوا ينتظرون من يسوع، الذي ظهر متجرّدًا من ذاته، ولا مصلحة شخصية له، أن يجمع الشعب مع رؤساء اليهود ضدّ الرومان الوثنيِّين محتلّي أرضهم، أرض يهوه. فرأوا أنّه غير معني بذلك، واعتبروا أنّه يميل بالشعب إلى اتّجاه آخر. وكان "رؤساء الكهنة والفرّيسيّون أن عقدوا مجلسًا وقالوا: ماذا نعمل؟ وهذا الرجل يصنع آيات كثيرة. فإذا تركناه على هذه الحال، آمن به جميع الناس، فيأتي الرومانيّون ويخرّبون هيكلنا وأمّتنا! فقال قيافا، رئيس الكهنة في تلك السنة. إن موت واحد فدى الشعب خير من أن تهلك الامّة كلّها!" (يو11: 47-50). يضيف يوحنا الإنجيلي: "ما قال قيافا هذا الكلام من عنده، بل قاله لأنّه رئيس الكهنة، فتنبّأ أنّ يسوع سيموت فدى الأمّة. ولكن لا فدى الأمّة فقط، بل ليجمع شمل أبناء الله" (يو11: 51-52).
وهكذا كان قرار قتل يسوع قرارًا سياسيًّا. فكانت علّة صلبه أنّه "ملك اليهود". وكان هذا هو ادّعاء اليهود الأساسي، وكأنّه منافس للقيصر الروماني. فلما سألهم بيلاطس: "أأصلب ملككم؟" أجابوا: "ملكنا هو القيصر". هذا هو الكذب الواضح والرياء والظهور بأكثر من وجه. ولمّا كتب بيلاطس علّة صلبه "يسوع الناصري ملك اليهود"، اعترضوا وطلبوا ألّا يُكتب "ملك اليهود". فكان جواب بيلاطس: "ما كُتب قد كُتب" (راجع يوحنا 19: 15-16).
8. فيما الفرّيسيون المأسورون بمصالحهم الخاصة بدأوا المحاولة والسعي إلى قتل يسوع، نجد بالمقابل اليونانيّين الوثنيين يسعون إلى رؤية يسوع. فطلبوا وساطة فيليبس (الآيتان 20 و21).
وجودهم في عيد الفصح كان من العادات المعروفة. لم يكن هيكل أورشليم مغلقًا على الوثنيّين. بل كانت الساحة الأولى منه، المسمّاة "ساحة الأمم"، وهي الأضخم بين باقي الساحات، مفتوحة أمامهم، يأتون إليها ويصلّون ويقدّمون التقادم وحتى الذبائح. وكان اليهود يعتبرون ذلك نوعًا من التبشير للأمم. ويخبرنا التقليد اليهوديّ، في التلمود، عن عدد كبير من الوثنيّين، وبالأخصّ اليونانيّين، الذين آمنوا بالله وصاروا يهودًا. يلفتنا كيف أنّ الكتاب المقدّس، حتّى قبل المسيح، يرفض التعصّب، ويدعو إلى الانفتاح المحبّ على الجميع. لا يقبل الله كلّ فكر تكفيريّ، يلغي الآخر. إنّما يدعونا إلى الحوار البنّاء بالاحترام.
وهكذا نفهم لماذا أرسل يسوع تلاميذه ليبشّروا كلّ الأمم. إنه بذلك "يُكمل" العهد القديم ويحقّقه. ويعيد الأمور إلى غايتها الأولى التي وضعها الله منذ إنشاء العالم.
أما جواب يسوع إلى اليونانيّين والتلميذين فكان: "الآن أتت الساعة ليتمجّد فيها ابن الإنسان. حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، اعطت ثمرًا كثيرًا" (يو12: 23-24). أرادوا أن يتعرّفوا إلى يسوع، فعرّفهم بذاته أنّه "حبّة الحنطة" الذي بموته المزمع وقيامته تولد البشرية الجديدة. فيكمل عدد المؤمنين من سائر الأمم، كما كتب بولس الرسول إلى الرومانيّين: "إنّ قسمًا من بني إسرائيل قسّى قلبه، إلى أن يكتمل عدد المؤمنين من سائر الأمم" (روم11: 25).
* * *
ثانيًا، رتبة الوصول إلى الميناء
تُقام هذه الرتبة يوم عيد الشعانين مساءً. هي الكنيسة، جماعة المؤمنين، بعد مسيرة أسابيع الصوم الستّة، وصلت كالسفينة إلى ميناء الأمان بالمسيح. وقد أطلقها الربّ يسوع، بالروح القدس وشراع الإيمان في الأحد مدخل الصوم وآية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة في عرس قانا الجليل.
مع هذه الرتبة تدخل الجماعة احتفالات الأسبوع العظيم: اسبوع آلام المسيح وموته وقيامته، بشموع مضاءة مثل مصابيح العذراى العشر (راجع متى 25: 1-12).
* * *
ثالثًا، الإرشاد الرسولي: فرح الحبّ
نواصل نقل صفات الحبّ الزوجي، كما شرحها البابا فرنسيس من "نشيد المحبة" الذي كتبه القديس بولس الرسول في رسالة إلى أهل كورنتس (1كور 13: 1-8).
الميزة العاشرة هي "الفرح مع الآخرين". صاغها البابا فرنسيس من جمع ميزتَين في واحدة: الأولى: "المحبة لا تفرح بالظلم"، والثانية: "بل تفرح بالحق" (الفقرتان 109-110): يوجد في الإنسان ميل إلى الفرح عندما يرى آخر يُصاب بالظلم. هذا ما تنطوي عليه الميزة الأولى. لكن القديس بولس كمّلها بوجهها الإيجابي في الثانية. إنّ "الفرح بالحقّ" إنّما يتمّ عندما نقرّ بكرامة الآخر، وعندما نقيّم قدراته وأعماله الصالحة. وهذا غير ممكن لمَن يريد دائمًا تشبيه ذاته، أو هو في تنافس حتى مع زوجته أو زوجه، لدرجة أنّه يفرح سرّيًّا بسقطاته وفشله.
الشخص الذي يحبّ، يستطيع صنع الخير للآخر، ويرى بفرح أنّ حياته تسير حسنًا. إنّه بذلك يمجّد الله، لأنّ "الله يحبّ مَن يعطي بفرح" (2 كور9: 7). والله يقدِّر بشكل خاصّ مَن يفرح بسعادة الآخر. مَن لا يغذّي فيه قدرة الفرح لخير الآخر، ولاسيّما إذا وضع كلّ همّه في حاجاته الخاصّة، يحكم على نفسه بالعيش مع قليل من الفرح، على ما قال الربّ يسوع: "فرح العطاء أكثرُ من الأخذ" (أعمال 20: 35). يجب أن تكون العائلة مكانًا حيث مَن يكسب شيئًا من الخير في الحياة يعرف أنّه سيُقام له العيد.
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، في مثل هذا اليوم دخلتَ اورشليم ملك التواضع والسلام. نسألك أن تدخل قلوبنا، وقد بلغنا إليك، في مسيرة الصوم، كالسفينة إلى ميناء الأمان. أغنِ قلوبنا بالتواضع لنحسن علاقاتنا مع جميع الناس، وأغنها بالسلام لكي ننشره فيما بيننا ونبنيه كلّ يوم بالمحبّة على أسس الحقيقة والعدالة والحرية. جمِّل قلوب الأزواج بالحبّ الذي يفرح لسعادة الآخر ونجاحه. فترتفع من قلوبنا أصوات المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك الراعي - موقع بكركي