يشعر الإنسان في عمق كيانه بنداء قوي يجذبه نحو الله، وهو بمثابة عطش عميق نحو الحياة، يجعل الإنسان يردّد مع المزمور: "يا ألله، إلهي أنت، وإليك أبكّر، فإليك تعطش نفسي، جسدي يتوق إليك كأرضٍ قاحلة يابسة لا ماء فيه" (مز 63: 2). إلا أنّ الإنسان قد يبحث عن الله مثلما يسعى وراء أمور العالم، فهو يقتنيها، يشتريها، يستولي عليها، أو يحسد من يملكها ويتحسّر على نفسه حين تفلت من بين يديه.
وفي يوم من الأيّام، يسمع يسوع امرأة تطوّب أمّه مريم لأنّها حملته في بطنها وأرضعته من ثدييها. بالتأكيد خبرة مريم مع يسوع فريدة ومميّزة، ولكنّ كلّ إنسان مدعوّ لتذوّق نعمة الله الفياضة والعظيمة في حياته. إنّ الله كلمة حبّ وفرح وحياة، يقولها في قلب كلّ شخص، وينتظر منه ردًّا حرًّا، هو ردّ الإيمان. وقد كانت مريم تلك المرأة التي سمعت كلمة الربّ في حياتها، وقبلت أن تقودها وأن تحوّلها إلى أمّ ابن الله العليّ، بوجه عجيب يقلب موازين مخطّطاتها ومشاريعها. تركت مريم نفسها بوداعة في يد الرُّوح القدس الذي حلّ عليها، واثقةً كلَّ الثقة بأنّ "ما من شيء غير مُمكن عند الله"، قائلةً عن نفسها: "أنا خادمة الرّبّ، فليكن لي كما تقول" (لو 1: 37-38). فقد حملت مريم يسوع في قلبها واستقبلته في حياتها قبل أن تحمله وترضعه. فيسوع كلمة الله المحيية يطرق باب قلب كلّ إنسان وينتظر أن يُفتح له، فيدخل ويسكن معه (رؤ 3: 20).
سيظلّ الإنسان يبحث عن إله يملأ مخيّلته المتطلّعة إلى القوّة والعظمة والسّلطان، إله يحقّق كلّ أحلامه بالتفوّق والقدرة الكلّيّة أمام المصاعب والمعوقات كافة. لقد كان النّاس أيّام يسوع يطلبون آية تنزل من السَّماء وتثبت لهم أنّ الله هو الإله القوي والقادر حسب تصوّراتهم وانتظارهم. ونحن اليوم لسنا غرباء عن سائر البشر، نطلب من الله أن يعمل أعاجيب في واقعنا الشخصيّ والاجتماعيّ. وغاب عن أناس الأمس كما يغيب عنّا اليوم أنّ سرّ حضور الله في حياتنا هو سرّ الطفل الذي يخلّص العالم (لو2: 11-12)، سرّ الحماقة التي هي "أحكم من حكمة الناس"، والضعف الذي هو "أقوى من قوّة النّاس" (1قو 1: 25). إنّه سرّ الحياة أقوى من الموت، مثلما خرج يونان من بطن الحوت حيًّا، وخرج يسوع من القبر قائمًا من بين الأموات.
تأخذنا كلمة الله إلى الميناء الداخليّ في قلب كلّ واحد منّا، حيث نلتقي ذواتنا في نور حضور الله، ومنه نتعلّم أن نحبّ ذواتنا، وأن نحبّ الآخرين مثلما نحبّ أنفسنا، وأن نحبّه فوق كلّ شيء، من كلّ قلبنا، ومن كلّ نفسنا، ومن كلّ عقلنا (متّى 22: 37). فكلمة الله هي بالحقّ "سراج لخطواتي ونور يا ربّ لطريقي" (مز 118: 105)، و"هي قريبة منكم جدًا، في أفواهكم هي وفي قلوبكم لتعملوا بها" (تث 30: 14). موضع كلمة الله هو قلب الإنسان، وهي نور عجيب يملأ عينيه، فتجعله يبحث عن الله وأن يجده في كلّ شيء، في العمل والرّاحة، في الأفراح والصّعوبات، في التوفيق والإخفاق، في الصِّحة والمرض، في الغنى والفقر، مع الأصحاب والغرباء، القريبين والبعيدين. وهكذا تتحوّل حياة الإنسان كلّها إلى إعلان حيّ عن حنان الله ورحمته، طيبته ومغفرته، وداعته وتواضعه.
الله معنا كي نحيا في الصّدق والحقّ، فيه نجد أنفسنا ونعرف طعم الفرح، ومعه نتعلّم بذل الذات والسّخاء والعطاء. يسوع هو "نور العالم" (يو 8: 12)، ولكنّنا نحن أيضًا "نور العالم" (متّى 5: 14)، بقدر ما تسكن فينا كلمته بالإيمان، وبقدر ما نتجاوب معها مثلما فعلت مريم. مَن كان في الله صار كلّه نورًا، ليس فيه أيّ ظلام، لأنّ "مَن يعمل للحقّ، فيخرج إلى النّور، حتى يرى الناس أنّ أعماله كانت حسب مشيئة الله" (يو 3: 21).
جاء يسوع إلى العالم نورًا وفرحًا وحياة، ومَن يعلنون حياته وخلاصه اليوم هم الذين يقبلون كلمته بفرح ويجعلونها تثمر في قلوبهم ثلاثين وستّين ومئة (مر 4: 20). سيظلّ الكثيرون يبحثون عن الآيات، وينتظر غيرهم إلهًا يشبع غرورهم ويسدّ جوعهم للقوّة والتسلّط، إلّا أنّ تلاميذ يسوع وأصدقاءه، ببساطتهم وأمانتهم وإخلاصهم، سيظلون وسط العالم واحةً للإنسانيّة والأخوّة والمحبّة، نجمًا يشير إلى نور الله الحاني والرّحيم، طريقًا للمصالحة مع الذات ولقبول الآخر في اختلافه وتفرّده. وهكذا يومًا بعد يوم يصبح عالمنا كلّه نيّرًا.
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ