ما عدا الوصيّة التي تطلب إكرام الأب والأمّ، أي حبّ الحياة، التي أعطونا إيَّاها، وقد اجتازهم حبّ الله، الوصايا تحدّد لنا كلّ الممنوعات. أمر غريب، لأنّه في النهاية «الشّريعة والأنبياء» يُلخَصون بالوصية المزدوجة والإيجابيّة لحبِّ الله وحبِّ القريب.
في الواقع الوصايا تعدّد لنا الممنوعات التي تجعلنا نخرج من الحبّ، ولكنّها لا تقول لنا كيف علينا أن نحبّ. فالحبّ لا يُمكن التحكم به: فإن أحببتُ طاعة، فهذا يعني أنّني أبحث عن ذاتي، عن كمالي وليس عن الآخر. أريد أن أكون كاملاً.
ولكن هناك تحديد إيجابي واحد: حبّ القريب كحبِّ الذات، إنّما يبقى معرفة متى وكيفيّة حبّنا لذاتنا بالفعل. قد يكون هناك الكثير من الأخطاء، لكن في النهاية نفهم أن حبّ الذات يعني إعطاءها لكي يحيا الآخرون وبهذه الطريقة نصبح أحياءً بالفعل وفصح المسيح هو الكشف عن هذه الحقيقة.
فعلى الصّليب تمّت السخرية من الشّريعة من قبل البشر وتمّ تجاوزها والتفوق عليها من قبل المسيح. يبقى أن نجد طريقة إعطائنا لحياتنا. فالظروف وحوادث تاريخنا الشخصيّ والجماعيّ هي التي تساعدنا على إيجاد الطريقة.
أكرّر وأقول أنّه لا يمكن لأحد أن يقول لنا كيف يمكننا أن نحبّ؛ علينا نحن أن نتكشف ذلك على مسار لقاءاتنا مع الآخرين. هنا نحن ما وراء الشّريعة ولكن دائماً ضمن خطّ الشّريعة.
يُمكننا القول بأنّ الحبّ يُملي علينا تصرّفات مُعاكسة لمنوعات الشريعة ولكن هذا لا يكفي: فالتصرّفات ليست سوى التعبير الخارجيّ لما يسكننا في أعماقنا. هناك مفارقة مهمّة: بعد أن قال لنا يسوع بأنّه لن يزول حرف أو نقطة من الشّريعة حتى يتمّ كلّ شيء، أو تزول السّماء والأرض (متى 5/ 17)، يرفع يسوع من مستوى الوصايا إن صحّ التعبير.
لم يضف شيئاً ولكنّه يعبر من التصرّفات الخارجيّة إلى المواقف الداخليّة التي تتحكّم فيها. فالتصرّفات التي تمنعها الشّريعة هي في النهاية تعبير عن انحرافات الحبّ في العمق.
هذا العبور من التصرّفات الخارجيّة إلى المواقف الداخليّة التي تتحكّم فيها يحقـّق أو يُعبّر عن العبور من «أعمل هذا أو ذاك» إلى «الكيان أو الوجود». والقدّيس بولس في الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس (6 /2 -10) يتحدّث بهذا الخصوص عن العبور من الشّريعة إلى الإيمان.
في هذا النظام الجديد، ما تطلبه الشّريعة مُنفذ أكثر ممّا كان تحت ظلّ الشّريعة القديمة، ولكن المهم هو أن التصرّف لا يتمّ باسم الشّريعة وما تطلبه، بل انطلاقـًا من اختيار إحياء الآخر، أن نجعله يوجد.
وهذا الاختيار ليس عفوي تمامًا؛ مصدره ليس نحن، إنّه يأتي نتيجة استقبالنا لحبٍّ يأتي من مكان آخر. إنّه يأتي من العهد الجديد الذي أتى ليحلّ مكان العهد المؤسّس على الشّريعة ومُعاش في ظلها.
نفهم لاحقـًا بأن العهد الجديد لا يختم استقبال الرّوح الذي هو الله نفسه والحالّ علينا. وكما أنّه لا يمكننا أن نكون على صورة الله إن فقدنا حريّتنا، فالرّوح لا يتملّكنا مرّة واحدة. إنّه مُعطى لنا في كلّ لحظة، وفي كلّ لحظة علينا أن نكتشفه وننتمي إليه.
بثلاثة أمثال صغيرة: «إن كان لأخيك عليك شيئاً»، والمحكمة الوشيكة وتهديد الحرب، يُفهمنا يسوع بأنّ المصالحة أهمّ من الطقوس الدينيّة وأن رفض إنهاء صراعاتنا يقودنا في النهاية إلى الكارثة. فالحياة هي من جهّة الحبّ.
ديننا، إيماننا هو إنساني ولكونه هكذا فهو إلهيّ. وفي نصِّ اليوم لدينا الإثبات على ذلك. أول أمر يلفت الانتباه هو أنّ العلاقة مع الآخر أهمّ بكثير، من التقادم والذبائح والطقوس؛ لا بل الطقوس وما يتعلّق بها لا معنى لها إن لم تكن علاقاتنا الإنسانيّة سليمة.
هذا يعني أنّ الإيمان المسيحيّ يتميّز بإعطاء الإنسان مكانة خاصّة لدرجة التقديس وبهذا المعنى تقول لنا رسالة بطرس «أمّا أنتم فإنكم ذريّة مُختارة وجماعة الملك الكهنوتيّة وأمة مقدّسة وشعب اقتناه الله». (1 بط 2 /9).
هذا التقديس يعبّر عنه يسوع في إنجيل متى (5/ 17 -37) عندما يقول لنا أنّه لا يحقّ لنا أن نمسّ بالآخر حتّى ولو بالنظر «قيل لكم لا تزني أمّا أنا فأقول لكم مَن نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه». وبهذا المعنى نفهم أيضًا أن الإنسان خلق على صورة الله كمثاله.
إذا نظرنا إلى إنجيل متّى (5/ 17-37) بتمعّن لا يُمكننا إلاَّ أن نُصاب بخيبة أمل كبيرة! مَن منّا يستطيع أن يعيش ما يقوله لنا النصّ؟ إذا أردنا تطبيقه بحرفيّة فسنكون حتمًا بدون أعضاء أو على الأقل مبتورين بما فيه الكفاية.
هذا يعني أنّنا في مسيرة وبالتالي علينا السَّعي للتقدم آخذين بعين الاعتبار أنّنا لن نصل ولا يمكن أن نصل؛ ومن جهّة أخرى هذا يعني أنّ هذه المسيرة تستند على عمل الرّوح فينا، لوحدنا ومهما كانت قدراتنا وإمكانيّاتنا لا يمكننا عيش ما يقوله النصّ.
هذا يعني أيضًا أنّ ما يهمّ الله ليست أعضاءنا إن صحّ التّعبير بل الإنسان، محور الله هو الإنسان والله خلقنا من الحياة وليس من أجل الموت، من أجل الفرح وليس من أجل الحزن إلخ...
هذا يعني أيضًا أنّه علينا التخلّي عن كلّ ما يمنعنا من الاتّحاد بالله ونتمسّك بما يقودنا إليه وقد عبّر عن هذه الفكرة القدّيس أغناطيوس دي لويولا بقوله لليسوعيِّين «أمّا نحن فلا نفضل الصّحة على المرض ولا الغنى على الفقر ولا الكرامة على الهوان».
وأخيراً وليس آخرًا هذا يبين لنا أهميّة ترجمة الإيمان من خلال علاقاتنا، فكلّ ما يقوله لنا النصّ يمسّ العلاقة مع الآخر. وما من شريعة تستطيع أن تقول لي كيف يمكن لعلاقاتي أن تكون، العلاقات الإنسانيّة تتجاوز كلّ شريعة لأنّها من مجال الرّوح «فالمواهب على أنواع وأمّا الرّوح فواحد».
(1 كور 12/ 4).
الأب رامي الياس اليسوعي.