"ها أنا أمَةُ الرّبّ فليكُنْ لي بحسب قولك" (لو1: 38)
1. بعد مسيرة طويلة من الإنتظار قادها الأنبياء على رأس شعب الله الذي كان ينتظر تحقيق العهد الخلاصيّ الجديد الموعود لجميع الأمم، وقوامه الفداء الشّامل وغسل جميع الخيانات، حلّ ملء الزّمن. فكانت بشارة الملاك لمريم، عذراء النّاصرة، المخطوبة ليوسف من سلالة داود. فقبِلَت البُشرى والوعد، مؤمنةً إيمانًا راسخًا بأنّ "لا شيء مستحيل عند الله" (لو1: 37). وبطاعة الإيمان أجابت: "ها أنا أمَة الرّبّ فليكُن لي بحسب قولك" (لو1: 38).
وطيلة حياتها، حتّى المحنة الأخيرة العظمى، عندما مات ابنها على الصّليب، ظلّ إيمانها راسخًا، من دون أن يتزعزع. ولم تكفّ أبدًا عن الإيمان بتحقيق كلام الله. فكانت للكنيسة المثال بامتياز للإيمان وطاعة الإيمان. ونحن في عيد بشارتها نلتمس من الله، بشفاعتها، هاتَين النّعمتَين الضّروريّتين واللاغنى عنهما في مسيرة حياتنا اليوميّة: الإيمان بكلام الله والطّاعة لِما يوحيه لنا.
2. يُسعدني أن أحتفل معكم بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، إكرامًا لأمّنا وسيّدتنا مريم العذراء في عيد بشارتها. وهي بشارة شعّ نورها على الكون وما زال يُضيء جميع ظلمات الحياة، لكونها حدَثًا بدّل مصير الجنس البشريّ بأسره. كما يطيبُ لي أن أحيي معكم الذِّكرى السّادسة لبداية خدمتي البطريركيّة، باختيارٍ من الرّوح القدس ومن المطارنة الأجلّاء أعضاء سينودس كنيستنا المقدّس. فإنّني أرفعها معكم ذبيحة شكرٍ لله على ما أنعمَ على كنيستنا وعلينا من نِعَم، وما حقّق من خير، في أبنائها وبناتها والمؤسّسات. كما نقدّمها ذبيحة إستغفار عن كلّ الأخطاء والنّواقص، ملتمسين منه نعمة الإصلاح والمصالحة. ونجدّد في هذه الذّبيحة المقدّسة، إلتماس أنوار الرّوح القدس الذي يهدينا إلى إدراك الحقيقة، وعيش المحبّة، ونشر ثقافتهما. فالحقيقة والمحبّة حاجة جيلنا.
3. في هذه الذكرى السنوية، أجدّد شكري ومحبتي لإخواني السَّادة المطارنة الذين أولوني ثقتهم وأقاموني "أبًا ورأسًا" لكنيستنا الأنطاكيّة. وأؤكّد لهم امتناني على موآزرتهم لي طيلة هذه السنوات السّت، بكلّ محبّة ووحدة في الرّأي والرّوح والتطلّعات. وإنّي أجدّد لهم محبّتي واحترامي وصلاتي، وأعرب عن تقديري وشكري للرؤساء العامّين والرئيسات العامّات ولأبناء وبنات ورهبانياتنا وسائر الرهبانيّات، على كلّ ما يقومون به من نشاطات روحيّة وراعويّة واجتماعيّة وإنمائيّة.
وأودّ أن أذكر معكم إخواننا المطارنة رعاة أبرشياتنا في النطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار، وأولئك الغائبين عن هذا الاحتفال لدواعٍ راعوية أو لأسباب صحّية. فإنّنا نذكرهم بصلاتنا ولاسيّما المسنّين منهم والمرضى، مع ذكر خاصّ لأخينا المطران شربل مرعي الذي يعيش حبيسًا في محبسة دير سيّدة طاميش. ونصلّي معًا لراحة نفوس إخواننا المطارنة الذين غادرونا إلى البيت السماويّ، ملتمسين لهم الرّاحة الأبديّة، وراجين تشفّعهم من أجلنا ومن أجل كنيستنا لدى عرش الآب.
4. من دواعي السّرور أن يشارك معنا عدد من النوّاب الأعضاء في مجموعة EPP في "البرلمان الأوروبي"، من مختلف الجنسيّات. وهم في زيارة إلى لبنان، للإطّلاع على الأوضاع في لبنان وفي بلدان الشّرق الأوسط، وبخاصّة على واقع المسيحيّين ودورهم في المحافظة على العيش المشترك بين المسيحيّين والمسلمين، وتعزيز ثقافة الإعتدال في المجتمع الشَّرق أوسطيّ. وتندرج هذه الزّيارة في إطار روابط الصّداقة والتّعاون بينهم وبين هذه البطريركيّة، وتجمعنا بهم لقاءات متنوّعة خارج لبنان، بالإضافة إلى المؤتمر السنويّ الثابت الذي تعقده مجموعة المشترعين الكاثوليك في مدينة Frascati بإيطاليا.
أودّ أن أرحّب بهم باسمكم وأشكرهم على هذه الزّيارة وعلى ما يقومون به من خدمة للحقيقة والعدالة في البرلمان الأوروبي.
Chers députés, membres du Groupe EPP du Parlement Européen, Vous êtes les bienvenus au Liban. Merci d’avoir voulu participer à cette Divine Liturgie en honneur de l’Annonciation de Marie, et en l’occasion du sixième anniversaire du début de mon ministère patriarcal. Nous vous remercions de votre visite et de l’attention que vous prêtez à la situation des chrétiens au Liban et dans le pays du Moyen - Orient et à leur rôle comme promoteurs de la convivialité islamo-chrétienne, de la modération et de la stabilité.
5. ويسعدني أن أوقّع بتاريخ اليوم، ككلّ سنة، رسالتي الرّاعويّة العامّة الخامسة التي تشكِّل برنامج السنة السادسة من خدمتي البطريركيّة، وهي بموضوع: "خدمة المحبّة الاجتماعيّة". وستوزَّع عليكم بعد هذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، وعلى الرّأي العامّ.
ثلاثة دواعٍ اقتضت إصدار الرّسالة بهذا الموضوع، وهي: الأوضاع الرّاهنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة التي تضغط على شعبنا، وتجعله فقيرًا أكثر فأكثر؛ ومرور عشر سنوات على الرسالة العامّة "الله محبّة" للبابا بندكتوس السادس عشر[1]؛ وتوجيهات قداسة البابا فرنسيس في الإرشاد الرسوليّ "فرح الإنجيل"[2]، والبراءة الرسوليّة الافتتاحيّة ليوبيل سنة الرّحمة: "وجه الرّحمة"[3].
6. إنّ أهميّة الرِّسالة ظاهرة في فصولها الثلاثة: فالفصل الأوّل يذكِّرنا بارتباط خدمة المحبّة (diakonia)، بخدمة الكرازة بالإنجيل (Kerygma)، وبخدمة الأسرار الخلاصيّة (liturgia)، ارتباطًا لا ينفصم. ما يعني أنّ خدمة المحبّة هي من صميم طبيعة الكنيسة ورسالتها. والفصل الثاني يعرض قطاعات خدمة المحبّة الاجتماعيّة التي تقوم بها كنيستنا المارونيّة: البطريركيّة والأبرشيّات والرّهبانيّات والمؤسّسات. وهي قطاعات تشمل بالأرقام فرص العمل والمساعدات الماليّة والاستثمارات لممتلكات الكنيسة وأوقافها.
أمّا الفصل الثالث فيضعنا أمام "خطّة مستقبليّة" تمكّن "خدمة المحبّة الإجتماعيّة" من مضاعفة تقديماتها فيما الحاجات تتكاثر عند شعبنا، وتفعل ذلك بالإتّكال على عناية الله وجودته.
7. "ها أنا أمة الرّبّ فليكُنْ لي بحسب قولك". بهذا الجواب تلتقي مريم مع إعلان إبنها الذي سيقول عند دخوله إلى العالم: "ها أنذا آتٍ لأعملَ بمشيئتك، يا ألله" (عبرا 10: 7). وبجوابها هذا وضعت ذاتها في تصرّف الله بشكلٍ مطلق، وتكرّست لشخص ابنها ورسالته. فامتدحتها أليصابات: "طوبى للّتي آمنت بأنّ ما قيل لها من قِبَل الربّ سيتمّ" (لو1: 45)[4].
8. وبجوابها أخضعت ذاتها لقدرة الله ولوساطة إبنها يسوع الوحيدة بين الله والإنسان. وقدّمت ذاتها عطيّة كاملة لله من أجل تحقيق تدبيره الخلاصيّ، فأشركها الله في وساطة إبنها بحكم أمومتها التي استمرّت بعد صعوده إلى السّماء، كوساطة بالشفاعة من أجل أبنائها جميعًا. يُعلّم المجمع المسكونيّ الفاتيكاني الثاني: "إنّ شفاعة مريم المتواصلة تستنزل علينا وعلى البشريّة، المفتداة بدم ابنها على الصّليب، النّعم التي تضمن لنا خلاصنا الأبديّ. لقد ظهرت وساطتها لأوّل مرّة في عرس قانا الجليل، وتتواصل، عبر تاريخ الكنيسة والعالم بضراعتها. أنّها بمحبّتها الوالديّة تتنبّه لإخوة ابنها الذين لم تنتهِ بعد مسيرتهم، أو الذين يتخبّطون في المخاطر والمحن، حتّى يبلغوا إلى الوطن السّعيد"[5].
9. تمثّل السيّدة العذراء المَثَل الحيّ لكلّ إنسان لجهّة دوره الخاصّ في تحقيق تصميم الله الخلاصيّ عبر تاريخ البشر. وبما أنّ الخلاص يشمل الشّخص البشريّ بكلّ أبعاد هذا الخلاص: الرّوحيّ والاقتصاديّ والمعيشيّ والثقافيّ، فتتضافر جهود الكنيسة والدولة من أجل تأمين هذا الخلاص. رسالتي الرّاعويّة "خدمة المحبّة الاجتماعيّة" تتوسّع في دور الكنيسة.
أمّا الآن فنوجِّه النداء إلى المسؤولين في الدولة اللبنانيّة فندعوهم إلى استعمال سلطتهم الشرعيّة من أجل تأمين الخير العامّ الذي يشمل "مجمل أوضاع الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة، التي تمكّن الأفراد والعائلات والمجموعات من تحقيق ذواتهم تحقيقًا أكمل"[6]. وندعوهم إلى إداء واجب مسؤوليّتهم المختصّ بتنظيم الدولة، إدارة وأجهزة ومخطّطات ومشاريع إنمائية في ميادين الاقتصاد والاجتماع والمعيشة والتشريع والثقافة، وإبرامًا لاتّفاقيات مع الدول بهدف التبادل التجاريّ استيرادًا وتصديرًا، مع خلق متزايد لفرص عمل.
11. عندما يؤدّي المسؤولون في الدولة هذا الواجب ويجرون الإصلاحات الإداريّة اللّازمة، ويحرّرون الإدارة من قبضة السياسيّين، يستطيعون عندئذٍ تعطيل عمليّات الفساد والهدر والتهريب، فيسهّل إقرار موازنة تستمدّ مواردها الأساسيّة والكبرى من مال الخزينة، وإقرار سلسلة الرّتب والرّواتب التي تتأمّن مدفوعاتها في القطاع العامّ من مال الدولة، وفي القطاع الخاصّ وبخاصّة المدارس من دعم الدولة لها ماليًّا كما في المدارس الرسميّة. ذلك أنّ الدولة قيّمة على الخير العامّ، والمدارس الخاصّة ولا سيّما منها الكاثوليكيّة، تشاركها في تأمينه. وعندما يتحلّون بفضيلة التجرّد، يتمكّنون من إصدار قانون للانتخابات عادل وشامل، ويجنّبون البلاد أزمة سياسيّة ودستوريّة جديدة.
إذا التزمنا كلّنا الاقتداء بمثَل أمّنا وسيدتنا مريم العذراء في الإيمان بالله وطاعته، نؤهّل لتسبيح الثالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
[1]صادرة في 25 كانون الاول 2005
[2]صادرة في 24 تشرين الثاني 2013
[3]صادرة في 8 كانون الأوّل 2015
[4] البابا يوحنا بولس الثاني: أمّ الفادي، الفقرة 13.
[5] الدستور العقائدي في الكنيسة "نور الأمم" الفقرة 62.