لا يمكننا قراءة هذا الحدث الإنجيليّ (متى17/ 1- 9) كقصَّة عجائبيّة وخارجة عن الزَّمن، إنّما ككشف لما نحن مدعوّين إليه، لما نحن مدعوّين للمشاركة به.
قبل هذا الحدث بقليل، نرى يسوع يسأل تلاميذه «من أنا في قولكم أنتم؟» (متى 16، 15). ثمّ يأخذ ثلاث من تلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنّا إلى الجبل، التلاميذ الذين أخذهم معه إلى جبل الزيتون، جتسماني ليصلوا معه، لكنّهم ناموا.
ماذا حدث على جبل التجلّي؟ هذيان جماعيّ؟ وصف لحلم؟ حدث غريب؟ طبعًا لا! فالإنجيليّ ليس براوي ولا بصحفيّ ولا بتقنيّ تصوير افتراضي. الإنجيليّ متّى يعرض علينا نظرة إيمان من خلال التوقف على الصّورة.
والمطلوب منّا تأمله في هذه الصّورة هو كشف الله عن ذاته من خلال تجلّي ابنه. يسوع ينفتح على أبيه بشكلٍ مُطلق ممّا يجعل منه شعاع الآب، منّور من كيان الآب نفسه.
لا بل أكثر من ذلك، يصبح يسوع النّور الذي استقبله ويعيش من ملئه. التأمّل في هذا المشهد يعطي فرحًا وسعادة. أن نكون شهود لهذا الحدث وأن نتذوق هذا الكشف لله عن ذاته، يُعطينا فرح وسعادة أيضًا.
وهذا الحدث يشكّل نوع من الصدى لبعض اللّحظات القليلة ولا شكّ، حيث بمناسبة رياضة روحيّة، أو حدث مهمّ في حياتنا نشعر فيها بحضور الله بطريقة أو بأخرى ممّا يجعلنا على مثال بطرس نقول: «نعم يا ربّ حسنٌ أن نكون ههنا». حدث التجلّي ليس حصرًا بيسوع. فيسوع الذي يقول فيه بولس الرّسول: «لم يعدّ مساواته لله غنيمة» هو أوّل البشر الذي يجذب إليه البشريّة جمعاء لتدخل معه في نور الله (فيل 2، 6).
هذا يعني أنّ حياة كلِّ واحد وواحدة منّا مدعوّة للتجلّي بفعل حبِّ الله القادر على أن ينير وجودنا بكلّ ما فيه جسدًا وروحًا لكن أيضًا علاقات وأنشطة، وخاصة ما نريد أن ننساه: ظلمات حياتنا.
قد تكون لدينا فكرة شاحبة، جزئيّة عن التجلّي عندما نرى فينا ولدى الآخرين ما يُمكن لبعض اللقاءات أن تحمل لنا من حبٍّ وحيويّة؛ كيف يمكن لها أن تحول جذريا وجودنا، أن تجلّيه إن صحّ التّعبير وتجعله يشعّ حياة.
المهمّ بالنسبة لنا، على مثال يسوع أن نعيش الله. ويسوع يدلّنا على الطريق، الطريق الذي يقودنا من الجبل إلى القدس. بطرس لا يعلم ما يقول عندما يطلب بأن يتوقف الزمن وينصب ثلاثة خيم.
يريد أن يبقى في حالة انخطاف، ويتذوّق سعادة حضور الله. في حماس اللّحظة، لا يُدرك بطرس أنّه لا بد من معرفة يسوع «المشوّه» لكي يفهم يسوع «المتجلّي». لم يدرك أنّه من المستحيل أن يفهم مجد المسيح دون العبور من الصّليب.
وأنّه من الوهم معرفة الله خارجًا عن الإنسان. يسوع المتجلّي، هو حضور الله في ولكلّ إنسان مشوّه. بمعنى آخر، التجلّي هو جواب الله المحب بدون شروط والقادر وحده على تحويل البشريّة المشوّهة.
لكنّه أيضًا جواب على السّؤال: «من أنا؟». هذه المرّة الجواب يأتي من التلاميذ. فالله نفسه يُسمع صوته: «إنّه ابني الحبيب الذي عنه رضيت». إنّه صدى للصوت نفسه في معموديّة يسوع على يد المعمدان حيث يتحوّل الجواب إلى صلاة: «فله اسمعوا».
اسمع يا إسرائيل! إنّها الكلمات الأولى لقانون إيمان شعب العهد القديم، التذكير بالله الوحيد الذي حرّر الشّعب. فالإيمان هو الذي يصنع الحياة اليوميّة. «اسمعوا له» يسوع كلمة حياة الآب.
في نهاية حدث التجلّي، يبقى يسوع وحده، كما أنّه يبقى الليل وحده في نزاعه والتلاميذ مطبقين في صمت الخوف. بأمر منه عليهم أن ينزلوا، أن يغطسوا في الحياة اليوميّة العاديّة وأن يصغوا إليه.
لا مجال للاستقرار، لا مجال للعيش بعيدًا عن الحياة اليوميّة. فالإيمان هو تجذر في الحياة الواقعيّة، لكن بنظرة جديدة على حياتنا، وعلاقاتنا وأنشطتنا.
ليكن تأمّلنا في يسوع المتجلّي سند لنا. ليساعدنا على عبور مخاوفنا ونصغي إلى يسوع. فمن خلاله يأتينا النّور، نور ليل الميلاد وصباح الفصح.
الوحيد القادر على أن يسمح للحبّ أن يسطع في حياتنا، الوحيد القادر على أن يجعلنا ننظر إلى العالم ونحن نعلم تمامًا أنّه قد تمّ خلاصه نهائيًا.
الأب رامي الياس اليسوعي.