مِن أَجْلِنا جَميعًا

متفرقات

مِن أَجْلِنا جَميعًا

 

 

 

مِن أَجْلِنا جَميعًا

 

 

يا لبشاعة ما يحدث في أيّامنا من حروب وصراعات! كم من عنفٍ مخيف! كم من مذابح يدفع ثمنها الأبرياء العزّل! كم من تشويهٍ واحتقار للإنسان صورة الله! وإزاء الأوضاع الصعبة التي نعيشها، نسمع كثيرين يتساءلون: أين الله من كلّ ما يحدث؟ كيف يسمح بذلك؟ ولم كلّ هذا الألم؟...أسئلة كهذه قد توحي بأنّ الله غريبٌ عنّا، قابع في علياء سمائه، لا يهمّه ألم الإنسان وعذابه، يدع المآسي تنقضّ علينا بدمٍ باردٍ من غير أن يحرك ساكنًا لمساعدتنا!

 

والحال، تفاجئنا قصّة التكوين (تك 1/22-18) بالحديث عن إلهٍ يشفق على إبراهيم ولا يرتضي موت إبنه الحبيب إسحق، بينما نرى هذا الإله نفسه لا يشفق على ذاته بل يُسلم ابنه الحبيب إِلى المَوت (رو8: 32)! لا شكّ أنّ حقيقةً كهذه تجعلنا نتساءل، ولكن لماذا يسلّم إبنه إلى الموت؟ يجيبنا بولس: "مِن أَجْلِنا جَميعًا"! إنّه الحبّ إذن! هذه البشرى الرائعة أنّ الله يحبّني لدرجة أنّه يجود بإبنه الوحيد نفسه "من أجلي" (غلا 2: 20)!

 

بيد أنّنا نخطئ إن اعتقدنا أنّ هذا البذل قد تمّ بلا عذابٍ أو ألم! وإن كان يستحيل علينا أن ندرك مقدار ألم الآب في السماء، إلا أنّنا نعرف "نوعًا ما" كم وكم عانى الإبن الحبيب! فهو لم يَسلم، وهو البراءة بعينها، من أبشع الجرائم وسيُقضى عليه بعد أن يعاني آلامًا شديدة ويرذله الجميع! هذا ما أنبأ به يسوع تلاميذه، ونعلم أنّ تلك الأقوال كانت صعبة التصديق بالنسبة إليهم، حتى أنّ بطرس إنفرد به وأخذ يعاتبه على تلك الأقوال المشؤومة (مر 9: 31 - 33)!

 

لا عجب، فالتلاميذ كلّهم كانوا مقتنعين بأنّه الماسيا المنتظر، ومن المستحيل أن يدع الله مسيحه يموت بعد أن يعاني المصير نفسه الذي يمكن أن يعانيه أي إنسانٍ يعيش على أرض الواقع؛ وإلا فمَن غيره يمكنه أن يخلّص الإنسان من كلّ ما يشوهه ويسمّمه، معيدًا إليه جماله وبهاءه؟!

 

في هذا السياق المتوتّر، يصحب يسوع معه بطرس ويعقوب ويوحنّا إلى جبلٍ عالٍ. ونعلم أنّ الجبل في لغة الكتاب المقدّس هو مكان لقاء الله، حيث يخرج الإنسان من كلّ ما يعيقه و"يصعد" نحو الله  في حميميّة قلبه. ومرقس إذ يذكر أن الجبل "عالٍ" يشير إلى أنّ يسوع يحيا لقاءً حميميًا "على أعلى المستويات" مع أبيه (إنّه لقاء قمّةٍ بامتياز!)، وباصطحابه التلاميذ أراد يسوع أن يفسح لهم المجال كي يلجوا في حميميّة تلك العلاقة، عساهم يفهمون أنّ الحياة أقوى من الموت وأنّ الكلمة الأخيرة هي للحبّ وبذل الذات الطوعيّ على صليب الواقع غير الورديّ على الدوام.

 

يمكننا تخيّل ما اختبره يسوع من قمّة السّعادة في ذلك اللقاء، وكيف تألّق مجد الآب وجماله على وجهه وثيابه. فالجمال الحقيقيّ ليس سحر المنظر الخارجيّ، بل الجمال الداخليّ النابع من قلب الإنسان النقي المسكون بالله والفيّاض بحبّه. وإن كنّا نقول بحقٍّ إنّ الحبّ يجعل الإنسان متجليًا، فكم بالأحرى الحبّ الذي يوحّد يسوع بأبيه في الرّوح!

 

إنّ رؤية التلاميذ ليسوع متجليًا بالحبّ ومُشعًا بنقاء الثلج ونصاعته لهي تذوّق مسبق لجمال القيامة ومجد السعادة الأبديّة! وفي كلّ مرّة ندع يسوع يقودنا معه كتلاميذه في صلاته للقاء أبيه ستنفتح أبواب السماء لتجعلنا نتذوّق منذ الآن جمال الإتحاد الإلهيّ وبهاء الأبديّة ومجد القيامة. فالصّلاة الحقيقيّة هي مشاركةٌ في اللقاء الإلهيّ بين الآب والإبن في الروح، وهي تعرّضنا لشمس الثالوث البهيّ فتنير بإشراقها ظلماتنا الداخليّة وتضرم قلوبنا بنار حبّه.

 

 

 

وما رسالة الآب لتلاميذ إبنه الأخصّاء على جبل الصّلاة؟ حقيقة حبّه لابنه وتثبيت رسالته وتعليمه في حمل الصّليب: "هذا هو إبني الحبيب، فله اسمعوا"! وهذه الكلمة تعنينا نحن أيضًا؛ فغالبًا ما نعتقد أنّ الصّلاة تقوم على مكالمة الله، وعلى شكره والتضرّع إليه.

 

ما من شكّ أنّ هذه الأشياء هي جزء من الصّلاة ولكنّها ليست الجزء الجوهريّ! فالصّلاة تقوم قبل كلّ شيء على الإصغاء لله، وسماع همس روحه في قلوبنا، والسّماح لكلمته بأن تتردّد في أعمق أعماقنا، فنستبطنها ونتأمّل بها لنحيا بهديها، وتتحوّل حياتنا شيئًا فشيئًا لتصبح حياة إتحادٍ بالإبن الحبيب العامل بما ينتظره الآب منه.

 

وإزاء جمال اللقاء، قد يطيب لنا على غرار بطرس أن نبقى على الجبل، حيث يمكننا البقاء بعيدين عن أوجاع الحياة اليوميّة ومنغّصاتها: "حسنٌ أن نكون هنا؛ فلو نصبنا ثلاث خيم..."! بيد أنّ وجودنا مصنوع من لقاءاتنا الحميميّة مع الله في الصّلاة، ومن إنخراطنا الملتزم في الحياة اليوميّة الرتيبة وهمومها المؤلمة.

 

وسواء عشنا أوقاتًا يحييها إيمان راسخ، أو مررنا بأوقاتٍ صعبة مليئة بالآلام والشّقاء والخوف، فيسوع هو معنا ليساعدنا على أن نجد الفرح والسّلام الداخليّ ونواجه الواقع المرير بشجاعةٍ ورباطة جأش.

 

نعم، إنّ إلهنا واقعيّ! ولن يحوّل بشكلٍ سحري واقعنا الصّعب أو يخلصنا من العذاب والمعاناة، لكنّه – إن صلّينا – سيغمرنا، كأبناء أحباء له، بحضوره الإلهيّ ويطبع وجه ابنه "أجمل بنيّ البشر" على وجوهنا، ليرسلنا من جديدٍ محمّلين بمحبّته ولمسة رحمته لإخوتنا الذين ينوؤون تحت أثقال الحياة وصعابها. إنّ جمال الحبّ الحقيقيّ لا يتجلّى إلا عبر حمل صليب الواقع "البشع" عمومًا ومعاناة التشوّه والألم حبًّا بالإنسان على غرار مَن غدا وبنعمته "لا صورة له ولا بهاء فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه" (أش53 :2)!

 

في مسيرة الصّوم المبارك، هل أدع يسوع يقودني لمشاركته صلاته لأبيه في الرّوح؟ هل أسمع صوت الآب وأصغي لكلمته المتجسّدة؟ هل أودّ مرافقته بصبرٍ وشجاعة في حمل صليبي اليوميّ فأشاركه المجد على درب بذل الذات لأجل إخوتي، وبالأخص من لا يحبّونني أو يضمرون لي السّوء؟

 

 

الأب غسان السّهويّ اليسوعيّ