محبة الله، وكلمة الحقّ، وسلام المسيح. هذه الثلاثة هي من ثمار حلول الروح القدس في زمن العنصرة. وكأنّ الربّ يسوع يختصر بها كلّ العلاقة القائمة بين الله والإنسان. إنّها علاقة محبّة يحياها المؤمن بحفظ كلام الله في الانجيل وكما تعلمه الكنيسة التي سلّمها هذا السلطان التعليمي: "إذهبوا وعلّموا كلّ الأمم" (متى 28: 19). وهي علاقة حقيقة يتقبّلها الإنسان نورًا لحياته من فم المسيح الذي طالما ردّدها: "الحقّ الحقّ أقول لكم" (متى 24: 2 و34 و47). وهي علاقة سلام يمنحه المسيح من سرّ موته وقيامته، سلامًا داخليًّا مع الذات والله والناس.
"مَن يحبّني يحفظ كلمتي" (يو14: 23). محبة الله تظهر في سماع كلامه، والعمل بموجبه في كلّ ما نقول ونفعل. مَن لا يحبّ الله لا يسمع كلامه، بل لا يريد أن يسمعه إمّا لعدم الاكتراث له وكأنّه مثل كلام كلّ الناس متناسين أنه كلام حيّ وفاعل، وإمّا بنيّة عدم الالتزام به من أجل الاستمرار في الحياة الشاذّة، المناقِضة للكلام الإلهي، وإمّا لاعتبار سماعه والتأمّل فيه والإصغاء لتعليم الكنيسة مضيعة للوقت من دون فائدة.
عندما نحبّ شخصًا، ألا نلقى سعادتنا في الاستماع إليه؟ ألا نقضي وقتًا طويلًا معه لمحادثته؟ وهل اعتبرنا مرّة أنّ سماع هذا الشخص الذي نحبّ مضيعةً للوقت؟ ألسنا نشعر به ساكنًا في عمق قلبنا.
هكذا مَن يحبّ المسيح، حافظًا كلام الله وتعليم كنيسته، يؤكّد له الربّ يسوع جازمًا: "أبي يحبّه وأنا أحبّه، وإليه نأتي وعنده نجعل لنا منزلاً" (يو 14: 23).
"الروح القدس يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم" (يو 14: 26). جاء المسيح الربّ الى العالم، ليقول له الحقيقة المطلقة التي تنير جميع الحقائق النسبيّة، وتصحّحها وتصوّبها، وقد ظهرت متجسِّدة فيه. إنّها حقيقة الله الواحد في جوهر الطبيعة الإلهية، والمثلّث الأشخاص: الآب الحبّ الخالق، والابن الفادي والمخلّص، والروح القدس المحيي والمقدِّس. وهي حقيقة الإنسان التي ظهرت بكمالها في إنسانية يسوع المسيح، وقد كشف الإنسان للإنسان بأقواله وأفعاله وآياته. وهي حقيقة التاريخ البشري الذي يجب أن يصنعه الإنسان بوعي والتزام ليكون تاريخ عدالة وسلام، فيبني فيه عالم الله المعروف بالملكوت، كما بناه الربّ يسوع الذي "كان يجول في القرى والمدن يعلن بشارة الإنجيل ويشفي من كلّ مرض وعلّة (متى 9: 35).
الروح القدس، النور السماوي، يعلّمنا ويعمّق فينا هذه الحقيقة المثلّثة؛ ويذكّرنا بكلّ تعليم المسيح في الإنجيل وتعليم الكنيسة، فاتحًا أذهاننا بمواهبه لنفهم، ومقوِّيًا إراداتنا لنثبت ونلتزم، ومالئًا قلوبنا بالمحبة لكي نسخو ونتفانى في كلّ عمل صالح.
"السلامَ أستودعكم، سلامي أعطيكم" (يو 14: 27). لقد أصبح السلام مرادفًا لإسم يسوع. "فهو سلامُنا" يقول بولس الرسول (أفسس 2: 14). إنّه يستودعنا ذاتَه في كلام الإنجيل وفي وليمة جسده ودمه القربانيّة، ويريدنا أن نتماهى معه فنصبح "صانعي سلام": "طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعَون" (متى 5: 9).
السلام الحقيقي الذي يعطيه هو سلام الحقيقة في العقل والمحبة في القلب والالتزام في الضمير. أمّا سلام العالم فهو سلام خارجي قائم على المصالح وعلى سيطرة القوي على الضعيف. لكنّه سرعان ما يتبخّر ويزول ويترك حزنًا وفراغًا عميقًا في النفس وباطن الإنسان.
إنّنا نلتمس، في هذه الليتورجيّا الإلهيّة، عطايا المسيح الثلاث بالروح القدس: المحبة والحقيقة والسلام. فبدونها لا يستطيع أن يعيش لا فرد ولا جماعة، لا عائلة ولا مجتمع ولا وطن. أزمة اليوم التي هي مصدر معاناتنا إنما هي أزمة عقول أصبحت أسيرة حقائقها الشخصية ولا تريد أن تعرف الحقيقة الموضوعية التي تحرّر وتجمع؛ وأزمة ضمائر باتت مخدّرة، ففقدت الشعور بالضرر الكبير، ولا تسمع أنين بؤس الناس ولا ترى حاجاتهم؛ وأزمة قلوب تحجّرت فخلت من مشاعر الحنان والاندفاع بمسؤولية في البذل والعطاء.
وحدها المحبة والحقيقة والسلام تولِّد الثقة بالنفس والثقة بالآخرين. لقد تبيّن أنّ فقدان هذه الثلاث مع فقدان الثقة هو في أساس عجز الكتل السياسية والنيابية في لبنان عن الحضور بمسؤولية وحرية إلى المجلس النيابي للاقتراع والتشاور وانتخاب رئيس للجمهورية على قاعدة الدستور والميثاق الوطني وروح التوافق.
وها نحن في اليوم الرابع من سنة الفراغ الثالثة في سدّة الرئاسة الأولى، الآخذة في خراب مؤسّسات الدولة اللبنانية ومكتسباتها بعد أربع وتسعين سنة من حياتها، ونحن على مسافة أربع سنوات من الاحتفال بمئويّتها الأولى. وإنّا نحمّل المسؤولية التاريخية كل الذين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يعطلون انتخاب الرئيس، ويهدمون مكوّنات الدولة.
إنّنا في كلّ حال نصلّي إلى الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء سيدة لبنان، ونحن نختتم في هذا الأحد شهر أيار المخصّص لتكريمها، من أجل انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان يعيد إحياءَ الدولة بكيانها ومؤسّساتها وكرامتها، ويعيدها إلى مقعدها وسط الأسرتَين العربية والدولية؛ ومن أجل إيقاف الحروب في فلسطين والعراق وسوريا وسواها، وإيجاد الحلول السياسية للنزاعات، وتوطيد السلام العادل والشامل والدائم، وإعادة النازحين والمهجَّرين والمخطوفين إلى أوطانهم وبيوتهم وممتلكاتهم، واستعادة حقوقهم كمواطنين أصيلين.
ومعًا نرفع نشيد المجد والتسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.