إنّ العالم اليوم، وبشكلٍ إستثنائي، يتمخّض في حروبٍ ضاريةٍ ومجاعاتٍ قاسيةٍ وأمراضٍ مستعصيةٍ وكوارث طبيعيّةٍ ونزاعاتٍ من كلّ الأنواع الدينيّة والعرقيّة والفكريّة... وهنا تتوالى الأسئلة التي تقرع باب الضمير؛ أين هو الله؟ وأين هي الكنيسة؟ وما هو دورنا كشبابٍ مسيحيّ يبحث عن الله والحقيقة والقيم الإنسانيّة من عدالةٍ وسلام؟
لكي نجد الله في ظلمة هذا العالم علينا العودة إلى اختبار الإنسان مع الله في الكتاب المقدّس الذي يُخبرنا أنّ الله خَلَق الإنسان على صورته كمثاله "فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك 27:1).
عندها أتت الحيّة "أحيَل جميع حيوانات الحقول التي صنعها الرَّبُّ الإله" (تك 1:3) وشوّهت صورة الله في عقل الإنسان وأظهرته على أنّه ظالمٌ ومانعٌ وقامعٌ لرغبة الإنسان بالألوهيّة، فاختار الإنسان، بحريّته، ألوهيّة الحيّة المزيّفة على ألوهيّة الله الحَقـَّة.
وكان أوّل نتيجةٍ أنَّ الإنسان بدأ بقتل أخيه الإنسان؛ ""فلمّا كانا في الحقل، وَثَب قايين على هابيل أخيه فقتله" (تك 8:4)، وثاني النتائج أنّ الطبيعة انقلبت على الإنسان في طوفان نوح (تك 7)، فانتقلت البشريّة من صورة الله إلى صورة الحيّة.
لكنّ الله، لأنّه أبٌ حنونٌ ورحومٌ ومُحبٌّ للبشر قرّر تحرير الإنسان من حُكم الحيّة وإعادته إلى حقيقته... إلى صورة الله! حضّر الله البشريّة من خلال نبوءات الأنبياء وأحداث التاريخ إلى أن تجسّد في أحشاء العذراء مريم ودخل تاريخ البشريّة وواقعها.
أصبح الرّبّ إنسانًا حاضرًا في تاريخ البشريّة جمعاء وتاريخ كلّ واحدٍ منّا، أصبح الربّ طفلًا يهرب من الموت، مراهقـًا ينمو "فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ" (لو 52:2)، شابًّا يجوع ويعطش وينعس ويبكي، يُلاحَق ويُظلم ويُدان ويُترك ليخونه تلاميذه، يموت ميتة المجرمين وينزل إلى الجحيم ليقوم في اليوم الثالث!
كلّ ذلك ليُصلح صورة الإنسان في كلّ مراحل نموّه... حتّى موته، ليكون آدم الجديد بمثَلَه وبطاعته لكلام الله لا الحيّة، والأهم ليُخلّص الإنسان بفتح الطريق نحو الملكوت "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو 6:14) ويَترك لك الحريّة باتبّاعه، باتبّاعه لتعود إلى حقيقتكَ... وتصبح إنسانًا.
أراد الرّبّ يسوع، ومن اللحظة الأولى لتجسّده، وبنعمته، أن يجعل من الإنسان شريكًا له في مشروع الخلاص، فاختار الرّسل وأسّس الكنيسة لكي تشهد لقيامته وتدلّ الإنسان إلى طريق الملكوت ليسلكها... إن أراد.
واليوم تطلّ الحيّة القديمة ولكن بشكلٍ عصريٍّ متطوّر، تطلّ بالخدعة ذاتها، تشوّه صورة الله، تقلب الحقائق، تحارب كنيسة يسوع، كلّ ذلك ليعود الإنسان عبدًا على صورتها.
الحيّة الجديدة تبثّ الحقد والكراهية وتوحي بالحروب لأجل السَّيطرة على مكامن الطاقة في العالم من خلال أدواتها وجمعيّاتها السريّة المتحكمّة بالأنظمة العالميّة.
الحيّة الجديدة تتلف أطنان القمح في الدّول المسمّاة "عُظمى" لكي تحافظ على سعر القمح العالمي بينما الشّعوب ترزح تحت وطأة الفقر والمجاعة.
الحيّة الجديدة تنتج الأفلام المسممّة والمواقع الإلكترونيّة المُدمّرة والموسيقى الفاسدة والمخدّرات القاتلة... لكي تدمّر مفهوم العائلة والتوازن الإنسانيّ والقيمة البشريّة.
الحيّة الجديدة تمنع إصدار الأدوية الحديثة الشافية لتبيع كلّ ما أصدرته من أدويةٍ قديمةٍ مخدّرة من خلال الشركات العالميّة المعروفة الهويّة والإنتماء.
والأهمّ أنّ الحيّة الجديدة تهاجم الكنيسة، تشوّه صورتها، تستفيد من أخطاء رجالاتها لتخلق شرخًا بين الأمّ وأبنائها وتفبرك الأكاذيب لتجذبهم إلى أفكارها وإجتماعاتها و"محافلها". لماذا الأهمّ؟ لأنّه بضرب الرّاعي تتبدّد الخراف!
ولأنّ الكنيسة، وبالرّغم من كلّ شىء، تبقى مشتل القدّيسين وحضور الربّ اليوميّ بالقربان والكلمة وصوت الله وضمير البشريّة.
دورنا كشبابٍ مسيحيّ، مُكرّسٍ أو علمانيّ، أن نعيَ أنّ المعركة موجودة وأنّنا جنود المسيح فيها حيث لا مكان للتراخي بل "للسَّهر لحماية القطيع من السَّارق".
دورنا أن نبحث عن مشروع يسوع في حياتنا وأن نتمسّك بتعاليم الكنيسة وأسرارها، وأن نشهد بحياتنا اليوميّة على حضور الله كلٌّ حسب دعوته.
إنّ الرّبّ بصليبه وقيامته قد انتصر على الشرّير، ولكنّ معركتي مستمرّة حتّى النفس الأخير؛ فهل أقبل صليب الرَّبّ في حياتي وأصبح شريكًا له في الإنتصار؟ هل أختار ألوهيّة الحيّة المزيّفة أم ألوهيَّة الصَّليب الحقـَّة؟
إنّها حقـًّا معركة كلّ إنسان...
الأب بيار نجم