رُفعت الصَّلوات على نيّة الإعلام والإعلاميِّين في لبنان وكلِّ العاملين في الوسائل الإعلاميّة، بدعوة من رئيس اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر، في اليوم العالميّ الحادي والخمسين لوسائل التواصل الإجتماعيّ الذي أصدر فيه البابا فرنسيس رسالة بعنوان: إيصال الرّجاء والثقة في زماننا.
كما شارك في القدّاس ممثل وزير الإعلام ملحم الرّياشي المحامي إميل جعجع، قائمقام المتن مارلين حدّاد، نقيب الصحافة عوني الكعكي، مدير مكتب الإعلام في رئاسة الجمهوريّة رفيق شلالا وممثلو مؤسّسات إعلاميّة وأعضاء اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام.
وقبيل بدء القدّاس، ألقى أبو كسم كلمة دعا فيها الإعلاميِّين في لبنان إلى "عيش رسالتهم الإعلاميّة في ظلّ رسالة الحقيقة الموضوعيّة لكي يكونوا مصابيح تضيء طريق النّاس على دروب الرَّجاء في هذه الحياة، سائلين الله أن يحفظ لنا لبنان وحريّاته الإعلاميّة".
وبعد الإنجيل ألقى مطر عظة قال فيها:
"عندما تنظم الكنيسة الكاثوليكيّة يومًا عالميًا للإعلام، فإنّها من وراء هذا العمل وبواسطته تشيد بالإعلام والإعلاميِّين، وتعترف جهارًا بأنّ العمل الإعلاميّ هو رسالة لها قدسيّتها في خدمة النّاس وإيصالهم إلى الحقيقة.
تعرفون الحقّ، يقول السيِّد المسيح في إنجيله الطاهر، والحقّ يحرّركم. ومعرفة الحقّ هذه مدينة للذين ينشرونها بين الناس، بعد أن يلمسوها لمسًا مُباشرًا، والذين ينقلونها إلى الآخرين بأمانة وإخلاص. فيبرز أهل الإعلام في دور خدّام الحقيقة وكهّانها والحرّاس لها من كلّ تضليل أو تجهيل أو تضييع.
إنّنا نُقيم هذا القدّاس على نيّة جميع العاملين في حقل الإعلام، أكان مكتوبًا أو مسموعًا أو مرئيًا أو داخلاً في عصر الرَّقميّة الحديث. ونذكر بخاصّة منهم أولئك الذين يتعرّضون للأخطار من أجل اكتشاف الحقيقة في البلدان الخاضعة للحروب والاضطرابات، والذين استشهدوا بعد أن خُطفوا وذوقوا أقسى العذابات، أو الذين عادوا إلى بلدانهم مصدومين ومشوشين. من أجلهم جميعًا، ومن أجلكم أيّها الإعلاميون في بلادنا والإعلاميّات الأعزّاء، نرفع الصّلاة إقرارًا بأفضالكم في الرِّسالة النبيلة التي تحملون، سائلين الله عز وجل أن يقوّيكم في تضحياتكم لترفضوا كلّ زيف وتتمسكّوا بالقيم السّامية التي تلهمكم في مساعيكم إلى كلّ عمل صالح.
وما من شكّ في أنّكم تقدّرون المصاعب الخاصّة التي تواجهون، عندما تتعاطون في العالم مع أنظمة صنعت من الإعلام وسيلة لتخدير النّاس وتشويه الحقائق بما يتلاءم مع مصالح القيّمين عليها، أولئك الذين يقلبون العمل الإعلامي السويّ إلى عمل دعائي يروِّج الفساد في العقول والضمائر عملاً بما أكّد أحدهم حين قال: اكذبوا وأكثروا من الكذب فسوف يبقى من الكذب هذا ما يكفي لنجاح القصد الذي تقصدون. وإذا كان التضامن بين النّاس خلاصيًا، فإن التضامن مع الإعلاميِّين في رسالتهم من أجل الحقِّ يبقى واجبًا علينا جميعًا، حكّامًا ومحكومين وذلك أمام الله والناس، وأمام التاريخ.
غير أنّ قداسة البابا قد أراد في رسالته لهذا العام إلى الإعلاميِّين، وإلى جميع ذوي الإرادات الصَّالحة، أن يدعوهم إلى ما هو أبعد من احترام الحقيقة ونقلها صافية إلى الناس. فإنّ هذا الوجه من العمل الإعلاميّ مع كونه جوهريًا ومفروضًا بالضّرورة القصوى، لا يوقف الرِّسالة الإعلاميَّة عند هذا الحد.
فالإعلاميّ هو أيضا مسؤول في رسالته عن بناء الكون وعن إيقاظ الرّجاء في العالم فلا يستسلم لليأس من حاله ولا يقع في الإحباط الجماعي القاتل. فيقول قداسته في هذا المجال: "إنّ العالم غارق اليوم بالأخبار السيِّئة تأتي إليه من كلِّ مكان". فالحروب لا تنتهي وكذلك الفساد والإفساد المستشريان إلى حدٍّ مخيف. فأمام هذا الوضع القائم نحن جميعًا مسؤولون عن إضاءة شعلة من نور تبدّد بعض الظلام، وتزرع في القلوب رجاءً بتغيير الوضع الحاضر ليصبح أكثر رحمة وأكثر إنسانيّة.
إنّ قداسته لا يقصد في هذه الدّعوة إجراء عمليّة تجميليّة للأخبار السَّوداء التي تعمّ الأرض، بل ما يريده هو نقل الأخبار السَّارة بالأولويَّة وتأمين المواقع المهمّة لها بحيث تلهم النّاس في حياتهم وفي أعمالهم بشكلٍ إيجابيّ. ولقد رسم في رسالته صورة عن العمل الإعلاميّ هذا توضّح أفكاره في هذا المجال. فيقول قداسته: أن الإعلام عمل لا يتوقّف والأخبار تملأ الأرض في كلِّ يوم. فيشبهه بطاحونة تدور حجارتها بقوّة الماء المنهمر عليها. لكن الإعلامي قادر في تشغيل الطاحونة هذه أن يختار طحن القمح فيأتي الخبر سارًا ومفيدًا، أو أن يختار طحن الزؤان فتأتي أخباره بهذا المعنى حافلة بالمرارة والأسى. فهلا توجّه الإعلاميّون نحو تسليط الضّوء في عملهم على كلِّ ما هو إيجابيّ وألا يغرقوا في السَّلبيَّات التي تجعل الإنسان يلحس المبرد فيتلذّذ به من دون أن يدري أنَّ هذه الفِعلة قد تجرّه إلى العدم والموت.
إنّ ما يريده قداسة البابا هو الدّعوة باسم هذا التفاؤل إلى إرساء قاعدة سلوك إعلاميّ يؤمِّن من أجل التلاقي بين الناس مساحات مشتركة وواسعة وفرص بناء حقيقيّ. يتساءل البعض: هل أنّ هذا العمل كافٍ لحلِّ مشاكل الشرّ والأشرار على سطح الأرض؟ فيواجه قداسته هذا النوع من التساؤل بإعلانه أنّ سلبيات هذا الكون يمكن تحويلها إلى إيجابيّات شرط أن ننظر إليها نظرات صحيحة.
ويضيف قداسته: إنّنا نستطيع أن نضع على عيوننا نظارات ملونة بلون الرّبيع فنرى السلبيّات وقد حفلت بلون جديد واعد، فنستخرج من أيّة سلبيّة نواجهها بعض وجوه لها مضيئة. كما نستطيع أيضًا أن نضع على عيوننا نظارات سوداء، وعند ذاك تتحوّل الإيجابيّات نفسها إلى وجوه سلبيّة. فلماذا البقاء في السلبيّات ولماذا تضييع الرَّجاء عندنا كما عند غيرنا من الناس؟ ولماذا لا نقدِّم للنّاس الخبر السَّار ولو كان هذا الخبر قد مرَّ بمراحل العذاب؟. فالمهّم ألا يكون للألم والعذاب الكلمة النهائيّة بل تكون هذه الكلمة للخلاص وللخلاص وحده. أليس هذا هو سرّ المسيح بالذات؟
إذ يقول قداسته أن الخبر السّار الأهمّ في الدّنيا هو المسيح نفسه ومحبّته القصوى، وفعل خلاصه في الكون. ولئن كان المسيح قد تألّم وجابه أحقاد اليهود الذين رفضوه وأوصلوه إلى الصَّلب والموت، فإن قيامته له المجد قد جعلت من الألم انتصارًا ومن اليأس رجاءً جديدًا لا يغلب.
من هذا المنظار يقول البابا أيضًا: تتحوّل كلّ مأساة جديدة تقع في تاريخ العالم إلى سيناريو لخبر سار محتمل عندما تتمكّن المحبّة من إيجاد سبيل للتقارب، ووجوه قادرة على عدم الإستسلام وأيدٍ مستعدّة للبناء. أفليس هذا ما نحياه اليوم أمام المأساة المتكرِّرة للكنيسة القبطيّة التي تقدّم لوطنها ولربّها الشّهداء تلو الشّهداء؟ فإنّنا واثقون من أنّ هذه الكنيسة لن تتخلى عن إيمانها، ولا عن محبّتها لوطنها المصريّ ولمواطنيها من غير المسيحيِّين. وما من شكّ في أنّ هذه الكنيسة ومعها كلّ مصر ستنتصر في النهاية بفضل الدّم البريء، دمّ الأطفال والنساء الذي يُهرق فداء عن الجميع، وتنقية للمنطقة كلّها من الكراهيّة والبغضاء. هكذا ينهي قداسة البابا رسالته بالتذكير بأنّ بذار الملكوت قد زرعت في أرض البشر، وهي تنمو حتى عندما لا يراها أحد، في اللّيل كما في النهار ولا تتوقّف عن النموّ، وعلينا أن نُدرك سرّها ونستخرج حضورها من علامات الزمن. ولا بدّ لهذه الحقيقة السّامية من أن تظهر جلية لعيوننا، فندرك أنّ القوّة التي تسيّر الكون كلّه ليست سوى قوّة روح الله القدُّوس.
يا أيّها الإعلاميّون الأعزّاء، إنّ قداسة البابا يذكّركم بأنّ الله هو سيّد التاريخ وليس الشرّ العابث بأمن الناس وحياتهم؛ وبأنّ الله يقود هذا الخلاص بالاشتراك مع الإنسان وليس بمعزل عنه. فهو الذي يدعونا جميعًا إلى العمل معه ليتّم التقدم في تحقيق ملكوت السّماء.
أمّا تشغيل محرّكات هذا العمل هذا فيبقى مرتبطًا بفضيلة الرّجاء التي يجب ألّا تغيب عنّا لحظة واحدة من لحظات أعمارنا. لكن هذا الرّجاء هو فضيلة متواضعة لا تعرف التباهي، بل هي في الواقع دفينة في طيّات الحياة وشبيهة بالخميرة الصّغيرة التي تخمر بفعاليّة العجنة كلّها.
وفي الختام يعلن البابا أمام الإعلام لا بل أمام العالم بأسره سرّ النجاح في حمل رسالة الرّجاء، بقوله أنّ الرّوح القدس هو الذي يزرع فينا الرَّغبة في الملكوت، وذلك من خلال أشخاص يتركون الخبر السَّار يقودهم وسط مأساة التاريخ، ويضيئون كالمصابيح في عتمة هذا العالم.
أفليس لنا بعد ذلك أن نرجو من الإعلاميِّين أن يشعلوا في قلوبهم مصابيح هذا الرَّجاء المُحيي؟ فلنسأل الرّبّ هذه النعمة لهم ولنا، وهو الكريم والحنّان، وله الشكر من الآن وإلى الأبد. آمين".
المركز الكاثوليكي للإعلام.