هل أصغي إلى صوت الرَّبِّ الذي يتكلّم بشكل متواضع، أم أضع مصلحتي الشخصيّة أمام ملكوت الله؟ هذا هو السؤال الذي تمحور حوله تأمّل الأب جوليو ميكيليني صباح اليوم الأوّل من الرّياضة الروحيّة التي يقيمها بمشاركة الأب الأقدس وأعضاء الـ"كوريا" الرومانيّة في بلدة أريتشا القريبة من روما لغاية العاشر من آذار الجاري تحت عنوان "آلام وموت وقيامة يسوع بحسب إنجيل متى".
قال الأب جوليو ميكيليني تقوم الرّياضة الروحيّة على صلوات الفرض وتأملين يوميّين ينطلقان من شرح النصوص الكتابيّة وصولاً إلى نتائجها وتبعاتها على الحياة اليوميّة، فيسوع كان يتّخذ قراراته بالصلاة وليس من خلال الأحلام والسحرة كما كان يفعل الإسكندر الكبير بحسب رواية بلوتارخُس، وبالتالي حثّ الأب ميكيليني الحاضرين على أن يسألوا أنفسهم كيف يتّخذون القرارات المهمّة في حياتهم: ما هو معيار التمييز لديّ؟ هل أُقرّر بشكل تلقائي ولأنّي اعتدت على ذلك واضعًا نفسي ومصلحتي الشخصيّة أمام ملكوت الله؟ هل أصغي إلى صوت الله الذي يتكلّم بتواضع؟
بعدها سلّط الأب ميكيليني الضّوء في تأمُّله على صورة بطرس وعلى التقليدي اليهودي، وقال إن بطرس يعترف بأنّ يسوع هو المسيح بحسب الوحي، وبالتالي أشار الأب ميكيليني إلى أن الآب لم يتكلّم فقط بواسطة الابن ولكنّه كلّم ابنه يسوع أيضًا من خلال بطرس. إنّ يسوع يُظهر شيئًا فشيئًا دعوته ولكنّه يقوم أيضًا بتصرّفات لأنّ الآخرين يطلبونها منه، ففي حياته في الناصرة ترك مجالاً كبيرًا للقاءات التي طبعت رسالته.
وبحسب التقليد اليهودي، ومع نهاية النبؤة الكبرى، كان يتم الاعتقاد أنّ الله لا زال يتكلَّم بأساليب متواضعة على سبيل المثال من خلال صوت الأطفال والمجانين، أو من خلال نسمة عليلة كما حصل مع إيليّا على جبل حوريب. وفي هذا السياق طرح الأب ميكيليني سؤالاً على الحاضرين ليفكّروا: هل أملك تواضع الإصغاء لبطرس؟ هل لدينا التواضع لنصغي إلى بعضنا البعض، متنبّهين للأحكام المسبقة التي لدينا ولفهم ما يريده الله أن يقوله لنا بالرّغم من انغلاقاتنا؟ هل أصغي إلى صوت الآخرين، حتى ولو كان ضعيفـًا، أم أصغي إلى صوتي فقط؟
هذا وتوقّف الأب جوليو ميكيليني عند شرح العلماء الذين يعتبرون أنّ يسوع كان يعرف كلّ ما كان سيحصل. نقرأ في إنجيل متى أنّ يسوع كان يذهبَ إِلى مَكَانٍ قَفر، هذا التعبير في اللغة اليونانيّة يشير إلى تراجع العسكر بعد هزيمة أو أمام خطر ما، ويبدو أن يسوع أيضًا قد تراجع أمام خبر اعتقال المعمدان وعندما عرف أن الفريسيّون يريدون قتله ولكن جميع عمليات التراجع هذه لم تكن ليتوقّف عن عمله وإنّما كان يسوع بعدها يقوم بأمور ملموسة أي يبشّر بالملكوت ويشفي المرضى. فبالرّغم من مقتل يوحنّا المعمدان تابع يسوع رسالته مُتّخذًا مسؤوليات جديدة وصولاً إلى تلك التي حملته إلى أورشليم، من هنا طرح الأب ميكيليني سؤالاً للتفكير الشخصيّ: هل لدي الشجاعة للذهاب إلى العمق في اتّباع يسوع المسيح عالمًا أنّ هذا الأمر يتطلّب مني أيضًا حمل الصّليب كما قال يسوع ومُعلنًا القيامة والفرح حتى عند الشّدائد؟
أمّا في تأمّله الثاني والذي تمحور حول موضوع الخبز والخمر جسد ودم يسوع انطلاقـًا من المقطع الإنجيليّ حول العشاء الأخير توقّف الأب جوليو ميكيليني عند عنصر يميّز البعد البشريّ للأكل معًا وقال إنّ العشاء الأخير يبدأ بالجملة: "ولمَّا كانَ المَساء، جَلَس لِلطَّعامِ معَ الإثني عَشَر". إن الجلوس إلى مائدة واحدة يعني اختبار الإقامة معًا ونوال ما أعدّه الآخرون كفعل حبّ؛ ويسوع القائم من الموت وبحسب الإنجيليّ يوحنّا قد أعدَّ الطعام لتلاميذه عند بحيرة الجليل، لكن الطعام والأكل يسلّطان الضوء أيضًا على خطيئة الإنسان وعلى أنانيّته وضعفه.
وفي هذا السّياق تحدّث الأب جوليو ميكيليني عن رمزيّة العصيان الأوّل الذي تمّ بسبب الطعام وعن الخطيئة المميتة الأولى: قتل الأخ، والتي تمّت بسبب غيرة قايين من تقدمة هابيل، وعن القسمة بين الأخوين يعقوب وعيسو التي تمّت أيضًا بسب جوع هذا الأخير وقال يمكننا أن نستمرّ في الأمثلة وصولاً إلى ما نقرؤه في الرّسالة العامّة "كُن مسبّحًا" والمتعلّق بالأنانيّة نسبة للطعام.
وتابع الأب جوليو ميكيليني مشيرًا إلى أنّ الأكل في الواقع هو علامة لهشاشة أنتروبولوجيّة: إنّه حاجة تشير إلى بشريّتنا وضعفنا. وبالتالي يمكن القول: "قل لي كيف تأكل أقول لك من أنت"؛ فالأكل هو قبل كلّ شيء أن ننال الحياة من خارجنا أي أن نعترف بأنّنا لا نكفي ذواتنا بمعنى آخر أن نعترف بمحدوديّتنا، والأكل مع الآخرين هو اعتراف أمامهم بحالتنا كخلائق.
أضاف الأب جوليو ميكيليني يقول في عشاء يسوع يظهر أيضًا عنصر آخر: تسليم يسوع من قبل يهوذا. فيسوع وفي الليلة التي أُسلم بها، وبحسب الرواية الأقدم للعشاء (1 كور 11) لم يسحب عطيّته بل أعطى كلّ ما بقي لديه ليعطيه أي جسده ودمه.
فالابن الكلمة كان قد قدّم ألوهيّته، فهو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواته للهِ غَنيمَة: بل قدّم بشريّته أي جسده لأنّ الكلمة الإلهيّة تجسّدت من خلال هذا الجسد، وبهذا الشّكل قدّم يسوع ذاته بكليتها. أمّا في روايته للعشاء الأخير يسلط متّى الضوء على عنصر نجده لديه فقط وهو الدم الذي يهرق على الصّليب من أجل مغفرة الخطايا، وبالتالي من يقرأ هذا الإنجيل يكتشف معنى اسم "يسوع" ويمكنه أن يعرف الشكل الذي ستتخذه مغفرة الخطايا، ذلك الشكل الذي التزم فيه ابن الله ومعه الآب والرّوح القدس ليبذلوا حياتهم، لأنّه وكما يقول لنا المزمور: "لا يفتدي أخ أخاه ولا يعطي اللهَ فِداه" ولا يمكنه أيضًا أن يدفع ثمن أخطائه وخطاياه، بل وحده الله فقط يمكنه أن يفتدي الإنسان من نفسه ومن الشر.
وختم الأب جوليو ميكيليني تأمّله طارحًا ثلاثة أسئلة، السؤال الأوّل حول علاقتنا بالأكل، والثاني حول كيف يمكننا نحن المسيحيّين الذين ينبغي علينا أن نجد الوحدة حول عشاء الرّب أن نكرّر من خلال انقساماتنا ديناميكيات الانقسام التي كانت في جماعة كورنتس، أمّا السؤال الأخير فكان حول مغفرة الخطايا وإن كنا ندرك فعلاً أن يسوع قد بذل حياته فعلاً ليمنحنا المغفرة وأن ذلك لم يكن بالكلام وحسب وإنّما بالفعل أيضًا.
إذاعة الفاتيكان.