حين سأل يسوع تلاميذه «مَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟»، أجابه بطرس: «أَنتَ المسيح» (مر8/ 27 - 35). وظنّ بطرس أنّ جوابه الصّحيح هذا يخوّله لأن يقول ما يشاء للمعلّم، بل وأن يكون الحكيم الذي ينصح معلّمه على انفراد، وكأنّه شريك يسوع في قيادة المجموعة.
فبعد الإعتراف بأنّ يسوع هو المسيح، أخبر يسوع تلاميذه عن آلامه صراحة ً. «فانفَرَدَ بِهِ بُطرُس وجَعَلَ يُعاتِبُه». وإذ رأى يسوعُ في حركة الانفراد هذه تعالٍ على باقي الرّسل، زجر بطرس وقال له: «إِنسَحِبْ وَرائي يا شَيطان! لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر». فما هي أفكار البشر، التي يقول عنها المسيح في أماكن أخرى إنّها أفكار الشّيطان، التي جعلت يسوع يطرد بطرس من أمامه ويقول له: اغرب عن وجهي؟
أوّل فكرٍ بشريٍّ دنيويٍّ مُستوحى من روح هذا العالم هو الكبرياء. إنّه أصل كلّ الشرور. والكبرياء يختلف عن تقدير الذات والفرح بالمواهب والإمكانيّات التي يتمتّع الشّخص بها وينمّيها. الكبرياء يتطلّب دومًا وجود شخص آخر أتكبّر أمامه بالتباهي والتبجّح، أو أتكبّر عليه بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة.
نرى هذا الكبرياء باستمرارٍ لدى سيّدات البيوت. حين تتذوّق واحدة منهنّ طعامًا حضّرته الأخرى، تعلن على الدوام طريقتها المختلفة في تحضير هذه الوجبة، وترفق كلامها بعبارة: «حينها تصبح الوجبة لذيذة جدًّا». الرّسالة الضمنيّة هي: أنا أفضل منكِ. نلاحظها حين يعرض شخص عملاً ما أمام زميله، مثلاً لوحة رسمها. وفجأةً يقول الزميل: هل رأيت لوحات فلان؟ إنّها رائعة. الرّسالة الضمنيّة هي: لوحات غيرك أفضل منك!
بالكبرياء يضع الشّخص ذاته نفسيًّا فوق الآخرين. ولذلك يحتاج المتكبّر إلى شخصٍ آخر، شخص يكون تحته. إنّها أفكار البشر في بنية المجتمعات. جميع المجتمعات، وجميع المؤسَّسات والإدارات، مبنيّة على أساس الهرم. تراتبيّة تجعل أشخاصًا فوق أشخاص. ومن شدّة تأصّل فكرة الجماعة المبنيّة على الهيمنة في أذهاننا، تصوّرنا الثالوث الأقدس بهذا الشّكل، فرسمناه مثلّثًا، واحترنا في جعل قاعدته فوق أم تحت، أي هل نضع الآب والابن في الذروة (قاعدة المثلّث فوق)، بناءٍ على بعض الآيات، أم نضع الآب في الذروة (قاعدة المثلّث تحت) بناءً على آياتٍ أخرى؟ وماذا في شأن الرّوح القدس؟ هل هو خاضع أم شريك؟ ولم نتصوّر الثالوث أبدًا كدائرة، على الرّغم ممّا تقوله الآيات معًا، وما يقوله آباء الكنيسة عن الحركة الدائريّة بين الأقانيم (بيريكوريز).
إلى جانب الكبرياء، وربّما منه، تأتي أفكار رفض الصَّليب، علامة الضّعف، ورفض صعوبات الحياة. يمكننا أن نشبّه الله بشركات التأمين الصحّي. إنّها تعد زبائنها بأنّ تعينهم في المرض إن أمّنوا على حياتهم لديها، ووضعوا ثقتهم بها. لكنّها لا تعدهم بضمان الصحة وبعدم المرض.
سوف نعاني المرض على الرّغم من أنّ التأمين يشمَلنا، ولكنّ الشّركة ستساعدنا للقضاء على المرض أو لتحمّله بأقلّ قلقٍ مُمكن. هنا يكمن كلّ معنى نشيد العبد المتألّم الذي نقرأه عند النبيّ أشعيا (50 5-9). فالنشيد لا ينفي الإهانة، بل يؤكّد على نُصرَة الله للمُهان. نحن نعاني الصّعوبات، ونمرّ بمِحَن، لكنّنا واثقون من أنّ الله معنا. ومن هذه الثقة ينبع صمودنا وتنال مقاومتنا شدّةً وبأسًا.
ولذلك يوصي يسوع مَن أرادوا أن يتبعوه بأن يحملوا صلبانهم، يقبلوا مختلف أنواع الألم المفروض عليهم، ويتبعوه. فبدون السَّير وراءه والالتزام به، سيتيهون ويعانون أزمة اللّامعنى. مع يسوع تنال آلامنا معنى، وينفتح أمامها الطريق المؤدّي إلى الملكوت.