سؤال طرحه الإنسان منذ أن ظهر لديه الوعي للألوهة: كيف أحتكّ بالإله، كيف ألتقيه، كيف أراه؟
وولّد الفكر البشريّ إجاباتٍ حَوَت من الغموض أكثر ممّا حَوَته من الحقيقة. وبالنتيجة، تبيّن للإنسان بوضوحٍ أنّ هناك هوّة تفصله عن الألوهة، هوّة لا يمكنه اجتيازها بقدرته، وهو بحاجةٍ إلى معونةٍ إلهيّة. وها إنّ المعونة تأتي البشر: صار الإله إنسانًا، وردم الهوّة الفاصلة بين العالم والله.
هذا الكلام يصلح لعيد الميلاد، عيد تجسّد الكلمة الإلهيّ. ولكن ماذا بعد؟ هل انتهى الأمر؟ لا! الآن بدأ دور الإنسان. فالله هنا، حاضر لكلّ مَن يفتّش عنه. وعليّ أن أجد السبيل إليه. فتأتي كلمات أشعيا النبيّ، الّتي كرّرها يوحنّا المعمدان، لتعطيني دليل طريقٍ، ومنهج سلوكٍ.
القاعدة الأولى للقاء الله
صوت صارخٍ في البرّيّة، ومَن له أذنان للسّماع يستطيع أن يسمعه.
عليّ أن أخلق برّيّةً في حياتي، مكانًا قفرًا خالٍ من الانشغالات اليوميّة وضجيج الحياة العاديّة والهموم الشخصيّة. مكان لا يكون فيه إلّا اثنان: أنا والله. خلوة حلوة، خلوة روحيّة، خلوة بين حبيبَين.
في هذه الخلوة، لا أسمع الصّوت الصّارخ وحسب، بل أسمع الصّوت الهامس الذي يقول لي: أحبّك رغم ضعفك، أحبّك رغم إثمك، أحبّك حبًّا أبديًّا، أنا الربّ إلهك الذي خلقك لأنّني أحببتُكَ، فإن عدلتَ عن حبّكَ لي لا أعدل أنا أبدًا. سأظلّ أحبّك وأتألّم بسببكَ.
القاعدة الثانية للقاء الله
كلّ وادٍ يُردَم.
الوادي هو العيش على مستوى منخفض، متدنّي، وربّما ساقط. إنّه الاهتمام المفرط بالأرضيّات: ماذا نأكل وماذا نشرب وماذا نلبس. الوادي هو غياب السموّ في حياتي، وأنّ يصير جلّ اهتمامي هو جمع المال والشّهرة والهيمنة. الوادي هو غياب الرقيّ الفكري والتحكيم العقليّ. إنّه مكان ظلمةٍ، ولا يستطيع مَن يعيش في الوادي أن يرى الأفق. لا يستطيع رؤية الشّمس في شروقها.
فلكي أرى الله عليّ أن أتسامى في اختياراتي الحياتيّة وهمومي. أن أخرج ولو لنصف ساعةٍ يوميًّا من انشغالاتي الدنيويّة لأمكث مع الله وأقول له: لن أقول لك ما أريده وما أحتاج إليه، بل أسألكَ: ماذا تريد؟
القاعدة الثالثة للقاء الله
كلّ جبلٍ يخفض.
لماذا ينبغي إخفاض الجبل؟ لأنّ الجبل مانع يحجب الرّؤية. وإلغاء هذا المانع يتمّ بطريقتين، الإزالة أو الارتقاء. وحيث إنّ إزالة الجبل الذي يمنعني عن رؤية الله أمر مستحيل، يمكنني أن أختار الاختيار الثاني: الإرتقاء. وليس عبثًا أن يتكلّم المتصوّفون، الذين عاشوا خبرةً روحيّة أصيلة، عليه في كتاباتهم. لا شكّ في أنّ ارتقاء جبل الهموم والمشكلات وأزمات الماضي ورفض الذات والجروح التي سبّبها الآخرون لي أو سبّبتها لنفسي أمر شاقّ ولكنّه ممكن بنعمة الله. مَن يستطيع ارتقاء الجبل يرى من قمّته الله، ويرى العالم بمنظور الله.
الطرق تقوّم وتُسهّل
إنّها الخطوة الأخيرة. وهي لا تنتمي إلى لقاء الله بل تنتج منه. كثيرون يضعونها من شروط لقاء الله. أمّا أنا فأجعلها من نتائجه. لا يمكن أن تظلّ حياتي كما كانت بعد أن ألتقي الحبّ الكبير. وتغيير المسار والمسلك يأتي بعد اللقاء وكأنّه نتيجة طبيعيّة. ويتمّ بسهولةٍ شديدة. فإذا كنّا نحن البشر نختبر هذا في العلاقات البشريّة، ونرى كيف يغيّر الحبّ حياة الأشخاص وسلوكهم، كيف لا يكون الأمر كذلك في الحياة الروحيّة؟
نستطيع في بداية السنة هذه أن نجعل لقاء الله هدفًا لحياتنا الروحيّة، وبرنامجًا نجتهد لتطبيقه موقنين أنّ القيمة ليست في النتيجة التي نحقـّقها وإنّما في الجهد الذي نبذله.
الأب سامي حلاق اليسوعي.