توجّه قداسة البابا فرنسيس صباح الثلاثاء إلى مدينة أسيزي للمشاركة في لقاء الصلاة من أجل السلام الذي يُعقد في المدينة الإيطاليّة بعد مرور ثلاثين سنة على اللقاء التاريخي الذي دعا إليه القديس يوحنا بولس الثاني عام 1986.
وصل الأب الأقدس إلى أسيزي في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف حيث كان باستقباله أسقف أسيزي –نوشيرا أومبرا المطران دومينيكو سورينتينو والسلطات المحليّة وممثلون عن الكنائس والديانات العالميّة، وبعد أن حيا الحبر الأعظم جميع الحاضرين بشكل فردي توجّه الجميع إلى دير الرهبان الفرنسيسكان حيث تناولوا طعام الغداء مع عدد من اللاجئين.
وعند العصر توجّه البابا فرنسيس مع ممثلي الديانات المسيحيّة إلى بازيليك القديس فرنسيس السفلى حيث احتفلوا بصلاة مسكونيّة، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس تأملاً قال فيه:
إزاء يسوع المصلوب، يدوي، لنا أيضًا، صدى كلماته: "أنا عطشان" (يو 19، 28). إن العطش -أكثر من الجوع- هو الحاجة الأقصى للكائن البشري، ولكنه يمثل أيضًا بؤسه المدقع. لنتأمل هكذا سر الله العلي، الذي صار، رحمةً بنا، بائسا بين البشر.
إلى أي شيء الرب عطشان؟ إلى الماء بالتأكيد، وهو عنصر أساسي للحياة. ولكنه عطشان بالأكثر إلى المحبة، وهو عنصر لا غنى عنه للحياة. إنه عطش كي يمنحنا ماء محبته الحية، ولكن أيضًا لنيل حبنا.
لقد أعرب النبي إرميا عن مرضاة الله عن حبنا: "قد تَذَكَّرتُ لَكِ مَوَدَّةَ صباكَ مَحَبَّةَ خِطبَتِك" (2، 2). ولكنه أسمع أيضًا صوت معاناة الله، عندما تخلّى الانسانُ عن حبّ الله، ناكرًا الجميل، -وكأن الرب يقوله الآن- حين "تَرَكوني أَنا يَنْبوعَ المِياهِ الحَيَّة وحَفَروا لِأَنفُسِهم آبارًا؛ آبارًا مُشَقَّقَةً لا تُمسِكُ الماء" (آية 13). إنها مأساة "القلب القاحل"، مأساة المحبة غير المتبادلة، إنها مأساة تتجدّد في الإنجيل حين يجيب الإنسان على عطش يسوع بالخلّ، الذي هو نبيذ فاسد. كما اشتكى صاحب المزمور بشكل نبوي: "جَعَلوا في طَعامي سَمًّا وسَقَوني في عَطَشي خَلاًّ" (مز 69، 22).
"المحبة ليست محبوبة": لقد كان هذا الواقع، وفقًا لبعض الأقوال، سبب ارباكٍ للقديس فرنسيس الأسيزي. فلم يكن يستحي القديس، محبّةً بالرب المتألم، من البكاء والأنين بصوت عال (را. مصادر الفرنسيسكان، عدد 1413).
يجب أن نأخذ على محمل الجد هذا الواقع، ونحن نتأمّل بالله المصلوب، العطشان إلى المحبة. لقد أرادت الأم تريزا دي كالكوتا أن يُكتَبَ قرب المصلوب، في مصلّيات كل جماعة من جماعاتها، "أنا عطشان". وكان جوابها لإرواء عطش يسوع المصلوب للمحبة، يأتي عبر خدمة الأفقر بين الفقراء.
إن الرب في الواقع متعطّش إلى محبّتنا المتعاطفة، ويُعَزّى حين، باسمه، ننحني على بؤس الآخرين. ففي يوم الدينونة، سوف يدعو الذين أسقوا العطشانَ كأسَ ماء "مباركين"، كما والذين أظهروا محبّة ملموسة لمن هو محتاج: "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25، 40).
كلمات يسوع تستدعي انتباهنا، وتطلب قبولًا في القلب وإجابة بحياتنا. يمكننا أن نسمع في قوله "أنا عطشان" صوت المتألمين، والصرخة الخفية للأطفال الأبرياء الذين يُحرمون من رؤية نور هذا العالم، والمناشدة القلبية للفقراء وللذين هم بأمسّ الحاجة إلى السلام.
إن ضحايا الحروب يلتمسون السلام؛ الحروب التي تلوث الشعوب بالحقد والأراضي بالأسلحة؛ يلتمسُ السلام أيضًا إخوتنا وأخواتنا الذين يعيشون تحت تهديد القصف ويُجبرون على ترك بيوتهم والهجرة نحو المجهول، وقد جُرِّدوا من كل شيء.
كل هؤلاء هم إخوة وأخوات المصلوب، هم صغار ملكوته، أعضاء جسده المجروحة والعطشى. أنهم عطشى. ولكنه غالبًا ما يُعطى لهم، على غرار المسيح، خلّ الرفض المر. من يصغي إليهم؟ من يهتم بالإجابة عليهم؟ فهم يلاقون في الكثير من الأحيان، صمتَ اللامبالاة الذي يصمّ الآذان، وأنانيةَ المنزعج، وبرودةَ الذي يطفئ صرخة طلبهم للمساعدة بنفس السهولة التي يستخدمها لتغيير قناة تلفزيونية.
إننا مدعوون، نحن المسيحيون، إزاء المسيح المصلوب، "قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه" (1 قور 1، 24)، إلى التأمل بسر المحبة التي ليست محبوبة وإلى سكب الرحمة على العالم. فالشر قد تحوّل، على الصليب، شجرة الحياة، تحول إلى خير؛ إننا نحن أيضًا، تلاميذ المصلوب، مدعوون إلى أن نكون "شجر حياة"، "يمتصّون" تلوّث اللامبالاة ويعيدون إلى العالم أوكسيجين المحبة. لقد خرجت الماء من جنب المسيح على الصليب، رمز الروح الذي يهب الحياة (يو 19، 34)؛ ليفيض منا أيضًا نحن المؤمنين به، التعاطفُ لجميع الأشخاص العطشى في يومنا هذا.
مثل العذراء مريم قرب الصليب، ليعطنا الرب أن نكون متّحدين به وقريبين ممن يتألم. ونتقرّب ممن يعيشون اليوم كمصلوبين ونستقي قوة المحبة من المسيح المصلوب القائم من الموت، فيتزايد الانسجام والشركة فيما بيننا. "إِنَّه سَلامُنا" (أف 2، 14)، هو من أتى ليعلن السلام للقريبين وللبعيدين (آية 17). ليبقينا جميعا في المحبة وليجمعنا بالوحدة، التي نسير بها، كي نصبح ما يريده هو: "واحدا" (يو 17، 21).
لقاء أسيزي للصلاة من أجل السلام
نداء قداسة البابا فرنسيس
أسيزي 20 سبتمبر/أيلول 2016
الموقع الكرسي الرسولي.