ها نحن نستعدّ من جديد للسَّير في درب الصِّيام الذي سيقودنا إلى الإحتفال بسرِّ موت المسيح وقيامته. وهو في الوقت نفسه زمن تعرضه علينا الكنيسة لنتأمل في عمل الخلاص الذي أتمّه يسوع المسيح. وهو عمل تمّ من خلال تقدمة الإبن نفسه عن طواعيّة: "لا أحد يأخذ حياتي، بل أنا أبذلها". لذا، يضيف يسوع قائلاً: "ما مِن حبّ ٍأعظم من حبِّ من يبذل ذاته في سبيل أحبَّائه".
نريد في زمن الصَّوم هذا أن نتأمّل في سرِّ المحبّة هذا العظيم. وهذا أمر يُعيدنا إلى التأمّل في أسس إيماننا لأنّ الخلاص الذي تمَّ ما هو إلّا مبادرة محبَّة من قبل الله.
أعطانا الآب إبنه عن طواعية. من يستحقُّ هذا الشّرف؟ يقول مار بولس: "جميع الناس قد خطئوا فحرموا مجد الله، ولكنّهم نالوا البرّ مجّاناً بنعمته" (روما 3، 22-23). وقد أحبّنا الله دون أن ينظر إلى وضع الخطيئة الذي كثيراً ما وضعنا أنفسنا فيه. فقد حنّ على ضعفنا، وجعل من ضعفنا سبباً ليفيض علينا المزيد من المحبّة. وهذا ما فتئت الكنيسة تقوله، وهو أنَّ الله لا يديننا بل يريد أن يُدخلنا في شركة معه في حياته.
"مجّاناً أخذتم فمجّاناً أعطوا". تدوّي هذه الكلمات في قلب الجماعة المسيحيّة في مسيرتها نحو القيامة. وما زمن الصّوم إلّا وقتاً ليُفكّر فيه كلّ مسيحيّ مؤمن في عظمة هذه الهبة. نعم، نحن أخذنا مجّاناً! أليست حياتنا كلّها هبة مجانيّة من الله؟ بدء الحياة واكتمالها هبة مجانيّة من الله. ولأنّها هبة من الله لا يمكن اعتبارها شيئا نملكه ونستطيع التحكم فيه، ولو أنّنا نملك طاقات كبيرة لتحسين نوع الحياة. من هنا الخطر أن يعتبر الإنسان أمام تقدم العلم أنّه هو خالق الحياة وأن يتلاعب في شجرة الحياة. (تكوين 3،24).
فما هو ممكن علميًّا ليس حتمًا جائزًا أدبيًّا. وفيما نقدّر كلّ ما يقوم به العلم لتحسين ظروف الحياة، يجب أن نذكر دومًا أن الحياة هبة وأنّها تبقى قيمة مطلقة، حتى عندما تكون محاطة بالألم والمرض. هبة يجب قبولها دومًا ومحبّتها دومًا. هبة أخذناها مجانًا ويجب أن نضعها مجانًا في خدمة الآخرين.
وفيما يعرض علينا زمن الصّيام صورة المسيح الذي يقدّم حياته فداءً عنّا، يذكّرنا بشكلٍ غير مباشر أنّ حياتنا مفتداة. وفي الرّوح القدس يدخلنا في حياة الثالوث نفسه ويسمح لنا بأن نتذوّق عذوبة حياة المحبّة من نبعها. نحن هنا أمام هبة عظيمة يجب أن نُعلنها بفرح. وهذه الحياة الإلهيّة التي نلنا بذرتها في المعموديّة، علينا أن نُغذيها باستمرار بجواب إيمان شخصيّ وجماعيّ، وبالصّلاة والإحتفال بالأسرار وبالشّهادة للإنجيل.
وبما أنّنا نلنا الحياة مجّانًا، علينا أن نبذلها مجّانًا في سبيل الإخوة. وهذا هو ما يطلبه المسيح من تلاميذه عندما يرسلهم ليكونوا له شهودًا في العالم: "مجّاناً أخذتم مجاناً أعطوا". وأول جواب مجّاني يجب إعطاؤه هو حياة مقدّسة تكون شهادة لمحبّة الله المجانيّة. ليت زمن الصّوم يكون مناسبة تذكّرنا بدون انقطاع بواجبنا في تعميق هذه الشّهادة الخاصّة! فعلينا نحن المؤمنين أن نكون منفتحين على حياة تتميّز بالمجّانيّة الدائمة، وذلك بتكريس ذواتنا لخدمة الله ولخدمة الإخوة.
يتساءل مار بولس: "أي شيء لك لم تستلمه؟" ومن هذه القناعة ينطلق الوعي بواجب محبّة القريب وخدمته. وكلّما ازدادت حاجة الإخوة، كلّما ازداد واجب المؤمن في خدمتهم. قد يكون الله يسمح بأن يمرّ البعض بواقع الفقر والعوز كي يكون ذلك حافزاً للمؤمن لأن يتحرّر من أنانيّته ويعيش حياة إنجيليّة حقيقيّة. وصيّة المسيح لا غموض فيها :"إن أحببتم من يحبّكم فأيُّ فضلٍ لكم؟ أليس العشارون يفعلون كذلك؟".
تقوم العلاقات بين البشر حسب نظرة العالم على المصلحة والفائدة التي نجنيها من أي عمل نعمله للآخر. وهذه النظرة أنانيّة لا تسمح للفقير أن يأخذ مكانه في المجتمع وفي عالم العلاقات. بينما المفروض أن يُحترم كلّ إنسان وأن يجد مكانه بسبب كرامته الإنسانيّة، بغضّ النظر عن صفاته أو نقائصه. لا بل كلّما كان الشّخص في ضائقة أو عوز كلّما كانت له حصّة أوفر من محبّتنا. هذا ما تحاول الكنيسة أن تشهد له من خلال مؤسَّساتها الخيريّة الكثيرة لخدمة المهمشين والفقراء والمستغَلّين. هكذا يصبح المؤمنون رسل الرَّجاء وبناة لحضارة المحبّة.
ليس مصادفة أن يقول المسيح لرسله: "مجّاناً أخذتم فمجّاناً أعطوا" في اللّحظة نفسها التي يُرسلهم فيها يحملون بُشرى الإنجيل إلى العالم. يريد المسيح أن ينتشر ملكوته الذي حان وقته من خلال عمل الرّسل المجانيّ. وهذا ما فعله الرّسل في بدء كرازتهم بحيث رأى المستمعون إليهم أنّهم يحملون رسالة أكبر منهم.
وكذلك الأمر اليوم: يجب أن يصبح عمل المؤمن حافزًا يحمل غير المؤمنين على الإيمان. وعلى مثال السّامري الرّحيم، يعلم المسيحيّ أنّ مساعدته لأخيه لا تقتصر على البُعد الماديّ. فهي دومًا تحمل بُعدًا تبشيريًّا بالملكوت الذي يُعطي ملء الحياة من خلال الإيمان والرّجاء والمحبّة.
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، هذا هو الرّوح الذي فيه يجب أن نستعدَّ للدّخول في زمن الصّوم، الكرم الفعليّ تجاه أفقر الفقراء. فنحن عندما نفتح لهم قلوبنا، نعي أن هبتنا لهم هي جواب متواضع على الهبات الكثيرة التي يمنحنا إيّاها الله. فقد أخذنا مجّاناً، لنعطِ إذا مجّاناً.
وهل هنالك وقت مناسب أكثر من زمن الصَّوم لنعطي للعالم شهادة المجانيّة التي يحتاج إليها؟ فبينما يدعونا الله، نحن بدورنا مدعوّون لأداء شهادة مجّانيّة أمام الآخرين. ولا يسعني إلّا أن أشكر جميع الكهنة والرّهبان والرّاهبات والعلمانيِّين الذين يعطون شهادة المجّانيّة هذه في جميع أنحاء المعمورة. فليكن هذا إلتزام جميع المسيحيِّين أينما كانوا.
ومريم العذراء، التي هي أم المحبّة والرّجاء، فلتكن مرشدتنا وسندنا في طريق الصِّيام هذا. وبينما أؤكّد للجميع محبّتي وصلاتي، أمنح الجميع، وخصوصاً من يعملون في طرق المحبّة المختلفة، بركتي الرَّسوليّة.
أعطي في الفاتيكان 2002
البابا القدِّيس يوحنّا بولس الثاني