كلمة البطريرك الراعي في المؤتمر السّنوي للمدارس الكاثوليكيّة

متفرقات

كلمة البطريرك الراعي في المؤتمر السّنوي للمدارس الكاثوليكيّة

 

 

 

 

كلمة البطريرك في المؤتمر السّنوي للمدارس الكاثوليكيّة

 

 

 

"الراعوية المدرسية في المدارس الكاثوليكية في لبنان:  رؤية ومسارات"

 

 

5-6 أيلول 2017 في ثانويّة الرّاهبات الأنطونيّات – مار الياس - غزير

 

 

 

 

 

"صنعُ الجماعة التربوية"

 

 

1. يسعدني أن أحيّي نيافة الكردينال Giuseppe Versaldi، رئيس مجمع التربية الكاثوليكية الذي شرّفنا بحضوره. وأشكره باسمكم على كلمته التوجيهية. كما أحيّي سيادة أخينا المطران حنّا رحمه رئيس اللّجنة الأسقفية، والأب بطرس عازار الأمين العام للمدارس الكاثوليكية في لبنان، وكلّ المشاركين في هذا المؤتمر، والمحاضرين فيه. ونعرب عن شكرنا لثانوية مار الياس للراهبات الأنطونيات هذه، لاستضافة المؤتمر. ويطيب لي أن أتكلّم عن "صنع الجماعة التربوية" وفقًا للبرنامج المقترح.

 

2. "صنعُ الجماعة" في المدارس الكاثوليكيّة عنصر أساسي في تكوين الرّاعويّة المدرسيّة. هذه الجماعة تستجيب إلى ضرورة العمل الجماعي المشترك في تحقيق العملية التربوية. ولذا، تصنعها المدرسة، إدارة ومعلّمين وتلامذة والعائلة والمجتمع المدني والدولة والكنيسة. فهي كلّها معنيّة بتربية التلميذ في كلّ أبعاد شخصيّته العلميّة والأخلاقيّة والإجتماعيّة والوطنيّة والرّوحيّة.

 

 

وبفضل تعاون مكوّنات الجماعة التربوية، يتخرّج التلامذة من المدرسة الكاثوليكيّة حاصلين على معرفة علميّة نوعيّة، وعلى أسس ثقافيّة وروحيّة وخلقيّة، تجعل منهم مواطنين مسؤولين متعمّقين في الثقافة اللبنانية، ومسيحيّين ناشطين، وشهودًا للإنجيل. وبذلك يواجهون بصفاء مستقبلهم. ويجدون أسبابًا للعيش وللرجاء[1].

 

3. في إعلان المجمع المسكوني الفاتيكاني الثّاني "في التّربية المسيحيّة" نجد أدوار المكوّنات الّتي تصنع الجماعة بانصبابها كلّها على تكوين شخصيّة التلميذ جسديًا وأخلاقيًّا وفكريًّا بشكل متوازن، بحيث يكتسب تدريجيًا حسّ المسؤوليّة النّاضج، والترقّي الشّخصي والحريّة المبنيّة على الحقيقة، والإندماج السّليم في مساحات العيش معًا في المجتمع، وإمكانيّة تقييم وقبول القيم الأخلاقيّة بضمير مستنير[2]. هذه المكوّنات الخمسة: المدرسة والأهل والمجتمع المدني والدولة والكنيسة[3]، يحدّدها بدوره المجمع البطريركي الماروني[4].

 

4. المكوّن الأوّل لصنع الجماعة هو المدرسة، إدارة ومعلّمين وأهلاً وتلامذة يؤلّفون أسرتها التربوية. إنّها المكان الّذي تلتقي فيه المكوّنات الأخرى، الّتي تشكّل معها الجماعة التربوية الكبيرة. فالمدرسة تتعاون مع الوالدين في اداء واجبها التّربوي، وتحلّ محل الجماعة البشرية في تربية أعضائها. وهي بالتّالي تلبّي الدعوة والرسالة الموكلتَين إليها من العائلة والكنيسة والمجتمع والوطن[5]. إنّها تُعنى بإنضاج إمكانيّات التلميذ الفكريّة، وبتنمية قدراته على التّحليل والحكم في الأمور، وبإدراجه في رحاب التّراث الثّقافي المكتسب عبر الأجيال، وبإعداده للحياة المهنية، ومساعدته على نسج علاقات صداقة، مع رفاقه من مختلف المذاهب والمناطق، وعلى روح التفاهم[6].

 

وتضع المدرسة كلّ طاقاتها في خدمة الجماعة المسيحيّة، وبصورة أشمل، في خدمة الوطن كلّه. فهي تعتني بالبعد الروحي والأخلاقي، وتقدّم رؤية للإنسان والتاريخ مستنيرة بالإيمان وبشخصيّة يسوع المسيح[7].

 

أمّا المعلّم فهو المحور الأساس لإنجاح العمليّة التربويّة، وصنع الجماعة. إنّه وجه المدرسة، المؤتمن على تربية كلّ تلميذ وتلميذة من تلامذته باسم أهله والمجتمع والكنيسة والوطن. فالمطلوب أن يكون ذا ثقافة أكاديمية، ومميّزًا بأخلاقيّته وقيمه الرّوحيّة. ليس المعلّم مجرّد ملقّن معلومات ومدرّب مهارات، بل هو أوّلًا مربٍّ يُجسّد في شخصه المبادئ التي يعلّمها. إنّه بذلك يُشدّد روابط الجماعة التّربويّة[8].

 

ويأتي التلميذ العنصر الثّالث في المدرسة بعد الإدارة والمعلّم. إنّه شريك مساهم في تتميم غاية العمليّة التربويّة، وهدف الجماعة ومبرّر وجودها. إنّه العامل الأوّل في تربيته الذّاتية الذي يخلق بينه وبين المعلّم والإدارة، وبينه وبين مكوّنات الجماعة التربويّة الأخرى علاقات محبّة ومودة واحترام[9].

 

5. المكوّن الثّاني في صنع الجماعة التربوية هو العائلة. فعلى الوالدين، لأنهم نقلوا الحياة لأولادهم، يقع الواجب الخطير لتربيتهم. فهم المربّون الأوّلون والاساسيّون بالنسبة إليهم. لذا، من واجبهم خلق الجوّ الملائم في العائلة، والمميّز بالحبّ وتقوى الله ومحبة الناس. فالعائلة هي المدرسة الأولى للفضائل الإنسانية والاجتماعية، وللتنشئة الإنسانية[10].

 

ويعود للوالدين الحقّ وحرية اختيار المدرسة لأولادهم، بحيث يعتبرون أنّها تواصل التربية التي يريدونها لهم. فيقع على السّلطات المدنيّة واجب حماية هذه الحريّة والدفاع عنها، باحترام العدالة التوزيعيّة، ودعم الأقساط المدرسية من المال العام من أجل الحدّ من تنامي هذه الأقساط وضبط زياداتها، بهدف التخفيف عن كاهل الأهل لكي يتمكّنوا من اختيار المدرسة لأولادهم بملء حريّتهم، ووفقًا لضميرهم[11]. وهذا مطلب متكرّر اليوم، بحكم الدستور اللبناني. إننا نحمِّل القيّمين على شؤون الدولة المسؤوليات التالية: مسؤولية إرهاق المواطنين بالأقساط الجديدة التي سترتفع حتمًا، كنتيجة لسلسلة الرتب والرواتب وقد طالبنا بها وأردناها عادلة ومنصفة للجميع؛ ومسوؤلية إرغام أيّة مدرسة على إقفال أبوابها؛ ومسؤولية زيادةِ عدد العاطلين عن العمل من بين المعلّمين والموظفين؛ ومسؤولية حرمانِ المناطق الجبلية والنائية من مدارس مجّانية وغير مجّانية، وتهجيرِ أهاليها إلى ضواحي المدن الكبيرة. نحن صاحب المعالي امام كارثة وطنية يجب معالجة اسبابها.

 

تجنّبًا لهذه المخاطر الاجتماعيّة التي تصيب الثقافة والتربية والوطن، نطالب مع دولة رئيس مجلس النوّاب، الأستاذ نبيه برّي، ما سبق وطالبنا به. فقال مشكورًا، في الخطاب الذي ألقاه الأربعاء الماضي في ذكرى الإمام موسى الصدر، ما حرفيّته: "الرئيس شارل ديغول واجه مثل هذا الموضوع، فاعتبر المدرسة الخاصّة ذات منفعة عامّة، ودفع رواتب المعلّمين لقاء حقّ المراقبة. ونستطيع نحن أن نقول بدفع فرق الرواتب لقاء حقّ المراقبة، وأن نفعل شيئًا من هذا الموضوع مقابل بعض الرقابة في هذا الأمر". فالباب مفتوح، صاحب المعالي.

 

6. المكوّن الثالث هو المجتمع المدني، بما فيه من جمعيات أهلية وبلديات وأندية وسواها. إنه مدعوٌّ للإفساح في المجال أمام التلامذة كي يقوموا بمبادرات تجسّد المبادئ التي تعلّموها، ويتمكّنوا من الاندماج في مجتمعهم، وتحفيز قدراتهم فيه. ومن واجب المجتمع المدني حماية المدرسة وتعزيز النشاط التربوي ومساندة الأهل حيث تدعو الحاجة[12].

 

7. المكوّن الرابع هو الدولة، المسؤولة عن سنّ القوانين والأنظمة للمؤسسات التربوية، ووضع المناهج. ومن واجبها تأمين المستوى الرفيع للدروس عبر كفاية المعلمين والجهاز المدرسي. وبما أنها تسنّ القوانين للتعليم الرسمي والخاصّ على السواء، فمن واجبها بحكم العدالة التوزيعية، أن تدعم التعليم الخاص ماليًّا كما قلنا[13].

 

إنّ مدارسنا الكاثوليكية ترفض أن توضع، من قِبل المسؤولين السياسيّين، في مواجهة مع المعلّمين وأهالي التلامذة. فليست مدارسنا ضدّ زيادة رواتب المعلّمين، ولا هي تريد إرهاق الأهل بزيادة الأقساط. بل من أجل حماية المعلّمين والأهل تطالب مدارسنا الدولة بدفع فرق الزيادات على الرواتب. فكيف تستطيع القيام بواجبات الرواتب الجديدة، وقد تسجّل تلامذتها ووُقّعت العقود مع المعلّمين وفقًا لأقساط العام الدراسي المنصرم، ووفقًا للموازنة الموضوعة قبل صدور سلسلة الرتب والرواتب؟ وإلا كانت حال مدارسنا كحال الشخص الذي يُرمى في الماء ويُقال له: "لا تتبلّل".

 

ومن واجب الدولة أن تحمي التربية الأخلاقية والإنسانية، بضبط الانحرافات والممارسات المعاكسة عبر وسائل الإعلام وتقنيات التواصل الاجتماعي. فهذه، إذا أُحسن استعمالها ببرامج بنّاءة، تكون شريكة فعّالة في العملية التربوية، وبخاصّة عندما يستعملها التلامذة لأغراض علمية وثقافية، ولإحياء حوار بنّاء مع الآخرين[14].

 

8. المكوِّن الخامس في صنع الجماعة التربوية هو الكنيسة المرسلة من المسيح "لتتلمذ وتعلّم جميع الشعوب" (متى 28: 19). لقد وجدت الكنيسة في المدرسة ذراعها وشريكها في الرسالة. ومن هذا المنظار فالكنيسة هي أمّ ومعلّمة، وبالتالي مربّية الأشخاص والشعوب، وهي الحريصة على تثقيفهم بالعلوم الفضلى والقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية[15].

 

وإن ما يعني الكنيسة في الأساس هو تعليم طريق الخلاص، ونقل الحياة الجديدة بالمسيح، بحيث يبلغ أبناؤها وبناتها ملء هذه الحياة. ولذا فهي تعمل بعناية كبيرة على تعزيز إنماء الشخص البشري إنماء شاملًا، وعلى تعزيز خير المجتمع الأرضي، وبناء عالم أكثر إنسانية[16].

 

لاتمام هذه الرسالة تعتمد الكنيسة، كنيسة الشهادة والشهداء، على الاباء المرشدين ومعلمي التعليم المسيحي وعلى كهنة الرعايا ومطارنة الأبرشيات والعائلات وجميع الذين واللواتي يشهدون لكلمة الله، بأقوالهم وأعمالهم وتكرّسهم لكي تبقى مدارسنا جماعة متضامنة ومتعاونة تغتذي بالالتزام "بقيم الشهادة الثلاث الأساسية: قيمة الإيمان الشخصي، قيمة المحبة الاجتماعية، وقيمة رجاء رسالية[17]"

 

9. إننا، إذ نفتتح اليوم هذا المؤتمر السنوي لمدارسنا الكاثوليكية بموضوع "الراعوية المدرسية"، ومن ضمنه صنع "الجماعة التربوية"، إنما نضعه تحت انوار المعلم الإلهي يسوع المسيح، مثال الشهداء، وشفاعة امنا مريم العذراء، كرسي الحكمة، ومثال الشهود راجين له النجاح في أعماله ومقرراته، لخير أجيالنا الطالعة والكنيسة والوطن.

 

 

 

*  *  *

 

 

 

[1]  البابا يوحنّا بولس الثّاني: رجاء جديد للبنان، 106-107

[2]  الاعلان في التّربية المسيحيّة، 1.

[3] راجع إعلان التربية المسيحية، 2-16.

[4] راجع "الكنيسة المارونية والتربية: في التعليم العام والتقني"، 30-35.

[5]  إعلان التربية المسيحية، 5.

[6] الكنيسة المارونية والتربية: في التعليم العام والتقني، 33.

[7] رجاء جديد للبنان، 106

[8]  الكنيسة المارونية والتربية: في التعليم العام والتقني، 33.

[9]  المرجع نفسه، 57.

[10]  في التربية المسيحية، 3؛ الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم، 48.

[11]  في التربية المسيحية، 6.

[12] في التعليم العام والتقني 61، في التربية المسيحية، 3.

[13] التعليم والعام والتقني، 60.

[14] المرجع نفسه، 63

[15] في التعليم العام والتقني، 62

[16] في التربية المسيحية، 3

[17] سنة الشهادة والشهداء، 9

 

 

موقع بكركي.