إستقبل قداسة البابا فرنسيس عصر الإثنين في قاعة السينودس بالفاتيكان أعضاء مجلس أساقفة إيطاليا لمناسبة انعقاد جمعيّته العامَّة السَّبعين والتي سيتّم خلالها انتخاب رئيس جديد لمجلس أساقفة إيطاليا خلفًا للكاردينال أنجلو بانياسكو، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة عفويّة رحّب بها بضيوفه وسلّمهم تأملاً كتب فيه:
خلال هذه الأيّام وفيما كنت أحضّر للقائي معكم وجدت نفسي أطلب ولمرات عديدة "إلهام" الرُّوح القدس الذي بدون قوته "لا شيء في الإنسان ولا شيء طاهر" وتبقى جهودنا بلا فائدة إن لم يملأ "نوره الطوباويّ" باطن قلوبنا فنبقى سجناء مخاوفنا غير قادرين على الاعتراف بأنَّ المحبّة قد خلّصتنا. "هلمّ أيّها الرُّوح القدس، وأرسل من السَّماء شعاع نورك. أعطِ مؤمنيك المتّكلين عليك مواهب مقدّسة".
أوّل هذه المواهب يقوم في الوحدة، مستعدّين لمقاسمة الوقت والإصغاء والإبداع والتعزية. أتمنّى أن تكون هذه الأيّام مفعمة بالعزاء المنفتح والمتواضع والصّادق. لا تخافوا من الإختلاف بل اتّكلوا على الرُّوح القدس الذي يفتح على التعدّديّة ويصالح المتباين في المحبّة الأخويّة.
عيشوا المجمعيّة الأسقفيّة التي تغتني بالخبرة التي يحملها كلّ فرد منكم والتي تستقي من دموع وأفراح كنائسكم الخاصّة. سيروا معًا لأنّ هذه هي الدّرب التي تكوّن الكنيسة. في الواقع، هذه المسيرة مطبوعة أيضًا بانغلاقات ومقاومات: إنّ عدم أمانتنا هو رهن قد وضع على مصداقيّة شهادة إرث الإيمان وهو تهديد أسوأ من ذلك الذي يأتي من العالم وإضطهاداته. هذا اليقين يساعدنا لنعترف بأنّنا من تتوجّه لهم الرّسائل إلى الكنائس التي تفتتح سفر الرّؤيا، الكتاب الكبير للرّجاء المسيحيّ. لنطلب إذًا نعمة أن نقبل ما يقوله الرُّوح اليوم للكنائس.
كالكنيسة التي في أفسس، ربما نحن أيضًا قد تركنا الحبّ والنضارة والحماس... لنعد إلى الأصول وإلى النعمة المؤسِّسة ونسمح ليسوع المسيح أن ينظر إلينا. كالكنيسة التي في سيرنا ربما نحن أيضًا في أوقات التجارب نصبح ضحيّة التعب والوحدة والقلق للمستقبل؛ ونبقى مرتبكين عندما نتنبّه أنّ إله يسوع المسيح لا يتطابق مع الصّورة والانتظارات التي نحملها عنه. لنحافظ إذًا على الثقة في مبادرة الله التي تفاجئنا ولن نخاف أبدًا بعد اليوم من الموت الثاني.
كالكنيسة التي في برغامس نحن أيضًا قد حاولنا أحيانًا أن نكيِّف الإيمان مع الدنيويّة الرُّوحيّة وحياة الإنجيل مع منطق السُّلطة والنّجاح. لنتعلّم إذًا أن نتخلّى عن الطموحات العقيمة والهوس بأنفسنا لنعيش باستمرار تحت نظر الرَّبّ الحاضر في العديد من الإخوة المهانين فنلتقي بالحقيقة التي تحرّر حقًّا.
كالكنيسة التي في ثياتيرا قد تعرّضنا ربما لتجربة تحويل المسيحيّة إلى مجرّد سلسلة من المبادئ الخالية من الواقع الملموس ووقعنا في روحانيّة غير متجسّدة. لنعد إلى الأمور المهمّة فعلاً: الإيمان ومحبّة الرَّبّ والخدمة بفرح ومجانيّة ولتكن لنا مشاعر يسوع وتصرّفاته ولندخل في شركة معه هو نجمة الصّبح التي لا تعرف الغروب. كالكنيسة التي في ساردس ربما تكون قد أغوتنا المظاهر والانتهازيّة وتكيّفنا مع الموضة وأحكام الآخرين فيما يحدثنا الاختلاف المسيحيّ عن قبول الإنجيل بالأعمال والطاعة الملموسة والأمانة المُعاشة. لنسمح إذًا للمحبّة أن تُسائلنا ولنغتني من حكمة الفقراء ونعزّز إدماجهم.
كالكنيسة التي في فيلادلفيا نحن مدعوّون للمثابرة والمغامرة في الواقع بدون خجل لأنّ الملكوت هو حجر ثمين نبيع في سبيله كلَّ شيء بلا تردّد لننفتح بالكامل على العطيّة والرّسالة. لنعبرنَّ إذًا بشجاعة كلَّ باب يفتحه الرَّبّ أمامنا؛ ولنستفد من كلِّ فرصة لنقترب من الآخرين، لأنّه حتى الخميرة الأفضل تكون غير قابلة للأكل إن بقيت وحدها فيما يمكنها بتواضعها أن تخمّر كميّة كبيرة من الطحين: لنختلط إذًا مع الآخرين ولنساهم بشكلٍ فعليّ في اللّقاء مع الغنى الثقافيّ المتعدِّد؛ ولنلتزم معًا من أجل خير كلّ فرد ومن أجل خير الجميع.
كالكنيسة التي في لاوديكية ربما نعرف فتور التنازلات والتردُّد وفخاخ الإبهام ونعرف أنّ عقاب هذه المواقف قاسٍ جدًّا، لنفتح إذًا قلوبنا للحاجّ الأزليّ الذي يقرع على أبوابها: لنُدخله ونتعشّى معه ولننطلق مجدّدًا لنصل إلى كلّ مكان حاملين إعلان العدالة والأخوّة والسّلام. أيّها الإخوة الأعزّاء، إنّ الرّبّ لا يريدنا أن نيأس لذلك لا نتوقفنَّ عند التأنيب الذي يولد من المحبّة ويقود إليها، وإنّما لنسمح بأن نُطهّر ونُعزّى: "طهّر ما كان دنسًا، إسقِ ما كان يابسًا، إشفِ ما كان معلولاً، ليّن ما كان صلبًا، أضرمْ ما كان باردًا، دبّر ما كان حائدًا".
تُطلب منّا الشجاعة لنتحاشى الاعتياد على الأوضاع المتجذّرة والتي أصبحت تبدو طبيعيّة ولا يمكن تخطّيها، فالنبوءة تتطلّب منّا خيارات شُجاعة؛ لنتحرّك إذًا واثقين أنّ هذا الزّمن هو زمن نعمة يسكنه روح القائم من الموت ومن واجبنا أن نعترف به ونقبله بوداعة: "هلمّ أيّها الرّوح القدس، أيّها المعزّي الجليل، يا ساكن القلوب العذب. أيّتها الاستراحة اللّذيذة".
أيّها الإخوة الأعزّاء الذين "جَعَلَكُمُ الرُّوحُ القُدُسُ حُرَّاسًا لَه لِتَسهَروا على كَنيسَةِ اللهِ" وتشاركوا في رسالة الرّاعي الصَّالح: لا ينبغي أن يبقى أحدًا خفيًّا أو مُهمّشًا بالنسبة لكم بل اذهبوا للقاء كلّ شخص بمحبة وشفقة الأب الرَّحيم وبروح قويّ وسخيّ. تنبّهوا لخير الآخر كما ولو كان خيركم وابذلوا حياتكم في سبيل الآخرين بمجانيّة وحنان، ولتكن هذه دعوتكم، لأنّه وكما كتبت القدّيسة تريزيا الطفل يسوع، "وحده الحبّ يحرّك أعضاء الكنيسة: ولو انطفأ الحبّ فلن يبشّر الرّسل بالإنجيل بعد الآن ولن يسفك الشّهداء دماءهم...".
وفي هذا الإطار أشكر باسمكم الكاردينال أنجلو بانياسكو على السّنوات العشرة كرئيس لمجلس أساقفة إيطاليا، أشكره على خدمته المتواضعة والمشاركة والتي لم تخلُ من التضحية الشخصيّة في مرحلة انتقال صعبة للكنيسة والبلاد. وبالتالي فإن انتخاب وتعيين خلفه لن يكون إلّا علامة محبّة للكنيسة الأمّ القدّيسة، محبّة تعاش بتمييز روحيّ وراعويّ ثمرة عطيّة الرُّوح القدس.
إذاعة الفاتيكان.