كلمة البابا فرنسيس لمجلس أساقفة إيطاليا

متفرقات

كلمة البابا فرنسيس لمجلس أساقفة إيطاليا

 

 

كلمة البابا فرنسيس لمجلس أساقفة إيطاليا

 

 

استقبل قداسة البابا فرنسيس عصر الإثنين في قاعة السينودس بالفاتيكان أعضاء مجلس أساقفة إيطاليا لمناسبة إنعقاد جمعيَّته العامَّة التاسعة والستين والتي تتمحوّر حول موضوع تجديد الإكليروس، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة رحّبَ بها بضيوفه وشكرهم على هذا اللقاء وقال:

 

إنّ العنصرة التي احتفلنا بها تضع هدفكم هذا في الإتّجاه الصَّحيح.

 

فالرُّوح القدس يبقى، في الواقع، الرَّائد في تاريخ الكنيسة: إنّه الرُّوح الذي يُقيم بالكامل في شخص يسوع ويُدخلنا في سرّ الله الحيّ؛ إنّه الرُّوح القدس الذي حرّك الجواب السخيّ للعذراء مريم وللقدِّيسين؛ إنّه الرُّوح الذي يعمل في المؤمنين وفي رجال السَّلام، ويخلق الاستعداد السَّخيَّ والفرح المبشّر للعديد من الكهنة. فبدون الرُّوح القدس – وكما نعرف – لا توجد إمكانيّة لحياة صالحة أو لإصلاح.

 

لا أريد في هذا المساء أن أقدّم تأملاً منهجيًّا حول صورة الكاهن وإنّما أن نفكّر بواحد من العديد من كهنة الرعايا الذين يبذلون حياتهم في جماعاتنا، ولنسمح لوجهه بأن يعبر أمام أعين قلبنا ولنسأل أنفسنا ببساطة: ما الذي يُعطي نكهة لحياته؟ لمن ولماذا يقدّم خدمته؟ ما هو السبب الذي يدفعه لبذل ذاته؟ أتمنى أن تقيم هذه الأسئلة في داخلكم في الصَّمت والصَّلاة والحوار الصَّادق والأخويّ، والأجوبة التي ستزهر ستساعدكم على تحديد إقتراحات التنشئة التي ينبغي أن تستثمروا فيها بشجاعة.

 

ما الذي يُعطي إذًا نكهة لحياة كاهننا؟ إنَّ الإطار الثقافي مختلف جدًّا عن الإطار الذي قام فيه بالخطوات الأولى لخدمته. ونحن الذين نجد أنفسنا غالبًا في تحسّر على هذا الزمن ينبغي علينا أن نشعر بقساوته أيضًا: كم من الأشخاص الذين نلتقيهم خلال خدمتنا يعيشون في اضطراب وبلبلة بسبب نقص المراجع التي بإمكانهم أن ينظروا إليها! وكم من العلاقات المجروحة! في هذا الإطار تصبح حياة كاهننا هادفة وهامّة لأنّها مختلفة وبديلة. فعلى مثال موسى، هو شخص اقترب من النار وسمح للَهيبِها أن يُحرق طموحاته للتدرّج المهنيّ والسّلطة. كاهننا حافي القدمين إزاء أرض يُصرّ على اعتبارها مقدّسة. وإذ يدرك بأنّه كسيح قد نال الشِّفاء، هو بعيد عن برودة الصرامة وعن سطحيّة من يريد أن يظهر نفسه سهل الانصياع.

 

بزيت الرَّجاء والتعزية يقترب من كلِّ واحد ويتنبّه لمشاركته عزلته وألمه. وإذ قبل بالتخلّي عن ذاته فهو لا يملك برنامجًا خاصًا، بل يسلّم وقته للرَّب في كلِّ صباح ليسمح للناس أن يلتقوا به وليصبح بدوره لقاء، وبالتالي فكاهننا ليس بيروقراطيًّا وليس موظّفًا تحرّكه معايير الفعاليّة. هو يعرف أنّ الحبَّ هو كلّ شيء؛ فلا يطلب ضمانات أرضيّة تحمل على الاتّكال على الإنسان؛ في خدمته لا يطلب شيئًا يتخطّى حاجته الحقيقيّة ولا يربط بنفسه الأشخاص الذين أوكِلوا إليه.

 

إنّ أسلوب حياته البسيط واستعداده الدّائم يجعلانه ذي مصداقيّة في عيون النّاس ويقرِّبانه من المتواضعين والفقراء من خلال محبَّة راعوية تجعله حرًا وتضامنيًّا. إن سرّ كاهنا يكمن في تلك العليّقة المشتعلة التي تطبع الحياة وتجعلها تطابق وتشابه حياة يسوع المسيح، والعلاقة مع يسوع هي التي تحرسه وتحفظه بعيدًا عن الدنيوية التي تُفسِد.

 

 لمن يُقدِّم كاهننا خدمته؟ قبل أن نسأل أنفسنا عن الذين تتوجّه إليهم خدمته، ينبغي علينا أن نعترف بأنّ الكاهن هو كذلك بقدر ما يشعر أنّه يشارك في الكنيسة وفي جماعة ملموسة يتقاسم معها المسيرة. فشعب الله الأمين يبقى الحشا الذي منه أُخذ والعائلة التي يرتبط بها والبيت المرسل إليه. هذا الانتماء المُشترك ينبع من المعموديّة وهو النفس الذي يحرّر من المرجعيّة الذاتيّة التي تعزل وتسجن.

 

إنّ الذي يعيش من أجل الإنجيل يدخل في مشاركة صادقة: يتوب الرَّاعي ويُثبِّته الإيمان البسيط لشعب الله الذي يعمل معه ويعيش في وسطه. هذا الانتماء هو ملح حياة الكاهن التي يعيشها مع العلمانيِّين في علاقات تقدّر وتحترم مشاركة كلّ فرد. وبالطريقة عينها، من الحيوي أيضًا بالنسبة للكاهن أن يتواجد في العليّة الكهنوتيّة. هذه الخبرة، عندما تُعاش كتعاون، تحرّر من النرجسيّة والحسد الإكليروسي؛ تنمّي الاحترام والمساعدة والمحبَّة المتبادلتين.

 

 وختامًا سألنا أنفسنا: ما هو السبب الذي يدفع كاهننا لبذل ذاته؟ ما أكبر الحزن الذي يسبِّبه الأشخاص الذين يعيشون نصف حياة. يحسبون كلّ شيء ولا يخاطرون بشيء خوفًا من الخسارة... إنّهم الأشخاص الأشدّ تعاسة. لكن كاهننا وبالرّغم من محدوديّته، هو شخص يخاطر بكلِّ شيء: ففي الأوضاع الملموسة التي تضعانه فيها الحياة وخدمته الكهنوتيّة هو يقدّم ذاته بمجانيّة وتواضع وفرح. هو يعرف أنّه لا يمكنه أن يتصرّف بأسلوب آخر: يحبّ الأرض التي يعرف أن الله يزورها يوميًّا بحضوره. إنّه رجل الفصح، ونظره موجّه نحو الملكوت الذي نحوه يسير التاريخ البشريّ بالرّغم من التأخير والمعاكسات.

 

فالملكوت هو فرحه والأفق الذي يسمح له بأن يجعل كلّ الباقي نسبيًّا وأن يبقى حرًّا من الأوهام والتشاؤم، وأن يحافظ في قلبه على السّلام وينشره من خلال تصرّفاته وأقواله ومواقفه.

 

 ها قد حدّدنا الإنتماء المثلّث الذي يكوّننا: إنتماء للرّبّ وللكنيسة وللملكوت. ينبغي أن نحافظ على هذا الكنز الذي نحمله في آنية من خزف! أشعروا بهذه المسؤوليّة واحملوها على عاتقكم بصبر وجهوزيّة وفي أيديكم وقلوبكم!    

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.