قوة المسيحي

متفرقات

قوة المسيحي

 

 

 

قوة المسيحي

 

 

 

أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول

 

نتأمّل اليوم حول الرجاء المسيحيّ كقوّة الشهداء. في الإنجيل، عندما يرسل يسوع التلاميذ لا يوهمهم بسراب النجاح السهل؛ على العكس، يحذّرهم بوضوح أنّ إعلان ملكوت الله يُحدث معارضة على الدوام. ويستعمل أيضًا عبارة قويّة: "ويُبغِضُكم – سيُبغضكم – جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي" (متى ۱۰، ۲۲). المسيحيّون يحبّون ولكنّهم ليسوا محبوبين على الدوام. يضعنا يسوع منذ البداية أمام هذا الواقع: إعلان الإيمان يتم في جوّ من العدائيّة. فالمسيحيّون إذًا هم رجال ونساء "عكس التيار". إنه أمر طبيعي: بما أنَّ العالم مطبوع بالخطيئة التي تظهر بأشكال عديدة من الأنانيّة والظلم، فإنّ الذي يتبع المسيح يسير في الاتّجاه المعاكس. ليس بسبب روح جدليّة وإنما أمانة لمنطق ملكوت الله الذي هو منطق رجاء ويُترجَم في أسلوب حياة يقوم على إرشادات يسوع.

 

 الإرشاد الأول هو الفقر. عندما يرسل يسوع تلاميذه، يبدو أنّه يهتمّ أكثر بـ "تجريدهم" من "إلباسهم"! في الواقع، إنَّ المسيحي الذي ليس متواضعًا أو فقيرًا ومتجرِّدًا عن الغنى والسلطة ولاسيما عن نفسه، لا يشبه يسوع. المسيحيّ يسير طريقه في هذا العالم بما هو أساسيٌّ للمسيرة ولكن بقلب مفعم بالمحبة. إن الفشل الحقيقي له أو لها هو السقوط في تجربة الانتقام والعنف بالإجابة على الشرِّ بالشر. يقول لنا يسوع: "هاءَنذا أُرسِلُكم كالخِرافِ بَينَ الذِّئاب" (متى ۱۰، ۱٦). وبالتالي بدون أنياب ومخالب وأسلحة. على المسيحي أن يكون حذرًا وأيضًا فطنًا في بعض الأحيان: إنها فضائل يقبلها المنطق الإنجيلي أما العنف فلا. لكي نتغلّب على الشرّ لا يمكننا أن نتشارك أساليبه.

 

 قوّة المسيحي الوحيدة هي الإنجيل. عند الصعوبات، علينا أن نؤمن أنَّ يسوع أمامنا وأنّه لا يتوقّف أبدًا عن مرافقة تلاميذه. إنَّ الاضطهاد لا يتناقض مع الإنجيل، بل هو جزء منه: إن كانوا قد اضطهدوا معلّمنا، فكيف يمكننا أن نأمل أن نُعفى من النضال؟ لكن وفي خضمِّ الدوامة يجب على المسيحي ألا يفقد الرجاء مُعتقدًا أنّه قد تمّ التخلّي عنه. ويسوع يُطمئن تلاميذه قائلاً: "أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه" (متى ۱۰، ۳۰). كمن يقول أنَّ الله يرى كل آلام الإنسان حتى تلك الصغيرة والخفيّة. فالله يرى ويحمي بالتأكيد؛ وسيعطي فديته. هناك بيننا في الواقع أحد أقوى من الشر؛ أقوى من المافيات والمكائد المظلمة لمن يستفيد على حساب البائسين، ويسحق الآخرين بتسلُّط... أحد يصغي دائمًا لصوت دم هابيل الذي يصرخ من الأرض.

 

 على المسيحيين إذًا أن يكونوا على الدوام على "الجهة الأخرى" من العالم، تلك التي اختارها الله: لا مُضطَهِدين بل مُضطَهَدين؛ لا مُتكبّرين بل متواضعين؛ لا بائعي أوهام بل طائعين للحقيقة؛ لا مخادعين بل صادقين. هذه الأمانة لأسلوب يسوع – الذي هو أسلوب رجاء – حتى الموت، يدعوها المسيحيّون الأوائل باسم جميل: "الاستشهاد"، والذي يعني "شهادة". لقد كانت هناك إمكانيات عديدة أخرى يقدّمها القاموس: كان من الممكن تسميتها بطولة وإخلاء ذات وتضحية بالذات.

 

لكنَّ المسيحيين الأوائل قد سمّوها باسم يفوح منه أريج التتلمذ. الشهداء لا يعيشون لأنفسهم، ولا يحاربون ليؤكِّدوا أفكارهم، ويقبلون الموت فقط أمانة للإنجيل. ليس الاستشهاد المثال الأسمى للحياة المسيحيّة لأنَّ فوقه تأتي المحبّة، أي محبّة الله والقريب، ويقول ذلك القديس بولس في نشيد المحبّة: "لَو فَرَّقتُ جَميعَ أَموالي لإِِطعامِ المَساكين، ولَو أَسلَمتُ جَسَدي لِيُحرَق، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما يُجْديني ذلكَ نَفْعًا" (۱ كور ۱۳، ۳).

 

 أحيانًا، عندما نقرأ قصص العديد من شهداء أمس واليوم – والذين هم أكثر من شهداء الأزمنة الأولى –، نندهش أمام القوّة التي واجهوا بها المَحن. هذه القوّة هي علامة للرجاء الكبير الذي كان يحرّكهم: الرجاء الأكيد بأن لا شيء ولا أحد بإمكانه أن يفصلهم عن محبة الله التي أُعطيت لنا بيسوع المسيح. ليمنحنا الرب القوّة على الدوام لنكون شهودًا له. وليمنحنا أن نعيش الرجاء المسيحي لاسيما في الاستشهاد الخفي لنقوم بواجباتنا اليوميّة بمحبّة وبشكل جيّد.

 

إذاعة الفاتيكان.