"قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم" (روما 13، 11)

متفرقات

"قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم" (روما 13، 11)

 

 

 

 

استقبل قداسة البابا فرنسيس ظهر اليوم السبت في قاعة كليمينتينا في القصر الرّسوليّ بالفاتيكان المشاركين في الجمعيّة العامّة لمجمع معاهد الحياة المكرّسة وجمعيّات الحياة الرّسوليّة وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وقال:

 

إنّه لفرح كبير لي أن أستقبلكم اليوم فيما تجتمعون في جمعيّتكم العامّة للتأمّل حول الأمانة وترك الحياة المكرّسة. إنّ الموضوع الذي اخترتموه مهمّ جدًّا، ويمكننا القول إنّ الأمانة في هذه المرحلة هي عُرضة للتجارب، إذ أن الإحصاءات التي قد تفحصتموها تُظهر هذا الأمر بوضوح.

 

نقف أمام "نزيف" يُضعف الحياة المكرّسة وحياة الكنيسة عينها. أمّا "الترك" في الحياة المكرّسة فيقلقنا جدًّا؛ صحيح أن البعض يتركون لأنّهم يعترفون، بعد مسيرة تمييز جديّة، بأنّها لم تكن دعوتهم ولكن هناك آخرين مع مرور الوقت يخونون الأمانة وغالبًا بعد سنوات قليلة من النذور المؤبّدة. ماذا حصل؟

 

 كما أشرتم، كثيرة هي العوامل التي تؤثِّر على الأمانة في تغيير العصر هذا الذي ليس مجرّد عصر تغيير، والذي يصعب فيه الالتزام بشكل جدّي ونهائي. إنّ العامل الأوّل الذي لا يساعد في الحفاظ على الأمانة هو الإطار الاجتماعيّ والثقافي الذي نعيش فيه.

 

نعيش غائصين في ما يُعرف بثقافة المُجزأ والمؤقّت التي يمكنها أن تقودنا إلى عيش حياة "نختار منها ما يناسبنا" ولنكون عبيدًا للنزعات الحاليّة. هذه الثقافة تولِّد الحاجة للبحث دائمًا عن "أبواب جانبيّة" مفتوحة على إمكانيّات أخرى وتغذّي الاستهلاك وتنسى جمال الحياة البسيطة والتقشفيّة مسببةً في أغلب الأحيان فراغًا وجوديًّا.

 

هذا وقد انتشرت أيضًا نسبيّة عمليّة، يتمّ من خلالها الحكم على كلّ شيء على أساس تحقيق ذاتيّ غالبًا ما يكون بعيدًا عن قيم الإنجيل. نعيش في مجتمع تستبدِل فيه المبادئ الاقتصاديّة المبادئ الخُلقيّة وتفرض قوانينها وأنظمتها على حساب قيم الحياة؛ مجتمع تُشجّع فيه ديكتاتوريّة المال والرّبح نظرة وجوديّة تُهمّش كلّ من لا يُنتج. وبالتالي ينبغي في هذه الحالة أن يسمح المرء أوّلاً بأن تتمّ تنشئته في البشارة لكي يلتزم فيما بعد في حملها للآخرين.

 

ينبغي علينا أن نضيف عوامل أخرى أيضًا إلى هذا العامل الاجتماعيّ - الثقافي وأحدها هو عالم الشباب، عالم معقّد وفي الوقت عينه غنيّ ويولّد التحدي. هناك العديد من الشباب الأسخياء والمتضامنين والملتزمين على الصعيد الدّيني والاجتماعي، شباب يبحثون عن حياة روحيّة حقيقيّة؛ شباب يجوعون إلى شيء مختلف عمّا يقدّمه العالم.

 

هناك شباب رائعون ولكن هناك أيضًا شباب ضحايا لمنطق العالم الذي يمكن تلخيصه على هذا الشكل: البحث عن النجاح مهما كان الثمن وعن المال السّهل والمتعة السّهلة. هذا المنطق يغوي أيضًا العديد من الشباب. وبالتالي يكمن لالتزامنا في الاقتراب منهم لنعديهم بفرح الإنجيل والانتماء للمسيح، لذلك ينبغي علينا أن نحمل البشارة إلى هذه الثقافة إن كنّا لا نريد لشبابنا أن يستسلموا.

 

أمّا العامل الثالث فيأتي من داخل الحياة المكرّسة عينها حيث إلى جانب العديد من شهادات القداسة نجد حالات تجعل عيش الأمانة صعبًا؛ ومن بين هذه الحالات نجد الرّوتين والتعب وثقل إدارة المؤسّسات والانقسامات الداخليّة والسّعي إلى السّلطة والأسلوب الدنيويّ في إدارة المعاهد وخدمة السّلطة التي تُصبح تارة تسلُّط وتارة أخرى تساهل.

 

إن أرادت الحياة المكرّسة أن تحافظ على رسالتها النبويّة وسحرها وتستمرّ في كونها مدرسة في الأمانة للقريبين والبعيدين ينبغي عليها أن تحافظ على نضارة وحداثة محوريّة يسوع وجاذبيّة الرّوحانيّة وقوّة الرّسالة وتظهر جمال إتّباع المسيح وتشع الرّجاء والفرح.

 

 هناك جانب ينبغي الإعتناء به بشكل خاص وهو الحياة الأخويّة في الجماعة. إذ تتمُّ تغذيتها بالصّلاة الجماعيّة والقراءة المُصلّية لكلمة الله والمشاركة الفعّالة في سريّ الإفخارستيا والمصالحة والحوار الأخويّ والتواصل الصّادق بين الأفراد والإصلاح الأخويّ والرّحمة تجاه الأخ الذي يُخطئ والمشاركة في المسؤوليّات، كما ينبغي أن تترافق جميع هذه الأمور بشهادة فرحة لحياة بسيطة بالقرب من الفقراء ورسالة تُفضّل الضواحي الوجوديّة.

 

إن نتيجة راعوية الدّعوات تتعلّق بتجدّد الحياة الأخويّة في الجماعة، أي في القدرة على القول "تعالوا وأنظروا" ومثابرة الإخوة الشباب والأكبر منهم أيضًا. لأنّه عندما لا يجد الأخ أو الأخت الدّعم والعضد لحياته المكرّسة داخل الجماعة فسيبحث عنه في الخارج مع كلّ ما يستوجبه هذا الأمر.

 

إنّ الدّعوة، كالإيمان، هي كنز نحمله في أوعية من خزف، لذلك ينبغي علينا أن نحافظ عليها كما نحافظ على الأشياء الثمينة لكي لا يتمكّن أحد من أن يسلبنا هذا الكنز ولا يفقد جماله مع مرور الزمن. وهذه العناية هي واجب كلّ فرد منّا، نحن الذين دعينا لإتباع المسيح عن كثب بإيمان ورجاء ومحبّة يتغذّون يوميًّا من الصّلاة ويتقوّون بتنشئة لاهوتيّة وروحيّة جيّدة تحمي من النزعات الحاليّة وثقافة المؤقت وتسمح لنا بالسَّير راسخين في الإيمان.

 

على هذا الأساس يمكننا ممارسة المشورات الإنجيليّة والتّحلّي بمشاعر المسيح. فالدّعوة هي عطيّة نلناها من الرّبّ الذي نظر إلينا وأحبّنا ودعانا لإتباعه في الحياة المكرّسة، كما وهي أيضًا مسؤوليّة لكلّ من نال هذه العطيّة.

 

إن كلّ فرد منّا قد دُعي بنعمة الرّبّ ليتحمّل مسؤوليّة التزام نموّه البشريّ والرّوحي والفكريّ وفي الوقت عينه للحفاظ على شعلة الدّعوة متّقدة، وهذا الأمر يتطلّب منّا أن نحدق النظر بالرّب متنبّهين على الدوام للسّير بحسب منطق الإنجيل وعدم الاستسلام لمعايير العالم. فغالبًا ما يبدأ عدم الأمانة بانحرافات صغيرة لذلك من الأهميّة بمكان أن نتبنّى دعوة القدّيس بولس: "قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم" (روما 13، 11).

 

 بالحديث عن الأمانة والترك ينبغي علينا أن نسلّط الضّوء على المرافقة. من الأهميّة بمكان أن تستثمر الحياة المكرّسة في تحضير مرافقين مؤهَّلين لهذه الخدمة. من الصّعب أن يحافظ المرء على الأمانة إن سار وحده أو برفقة إخوة غير قادرين على الإصغاء المتنبّه والصّبور أو لا يملكون خبرة ملائمة في الحياة المكرّسة.

 

نحن بحاجة لإخوة وأخوات خُبراء في دروب الله ليتمكّنوا من القيام بما قام به يسوع مع تلميذيّ عمّاوس: مرافقة الإخوة في مسيرة الحياة وفي لحظات الضّياع وإعادة إحياء شعلة الإيمان والرّجاء فيهم من خلال كلمة الله والإفخارستيّا.

 

هذه هي مهمّة المرافق المُلزمة، كثيرة هي الدّعوات التي تُفقد بسبب غياب مرافقين أكفّاء. جميعنا مكرّسون، شباب وبالغون، بحاجة لمساعدة ملائمة للمراحل البشريّة والروحيّة التي نعيشها، وفيما ينبغي علينا الإبتعاد عن جميع أشكال المرافقة التي تولّد تبعيّة لا يمكننا أن نستسلم ونسير وحدنا وإنّما نحن بحاجة لمرافقة ناضجة ومتواترة وعن كثب. جميع هذه الأمور ستساعدنا لنؤمّن تمييزًا مستمرًّا يحملنا على اكتشاف مشيئة الله والسّعي الدّائم إلى ما يرضي الرّب أكثر.

 

 أشكركم مجدّدًا وأستمطر عليكم وعلى خدمتكم كأعضاء ومعاونين لمجمع معاهد الحياة المكرّسة وجمعيّات الحياة الرّسوليّة عضد الرّوح القدس وأبارككم من كلّ قلبي. 

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.