لا يغيب عن بالنا، ونحن ندخل في زمن المجيء، في زمن التحضير لمجيء المخلّص، أنّ قصّة الميلاد قصّة مأساويّة. أنوار الملائكة وقصص الرعيان وهدايا المجوس لا تخفي عن نظرنا أنّ الطفل المولود هو طفل مرفوض، ليس له موضع في بيت لحم إلاّ في معلف الحيوانات.
لا ننسى أنّ الآتي إلى العالم لينير كلّ إنسان قد أتى إلى خاصّته وخاصّته لم تعرفه. نعلم أنّ الله يأتي إلينا حاملاً بشرى الخلاص وأمّا نحن فقلوبنا مثقلة كما يقول الإنجيل، مثقلة بالسكر والقصوف، منهمكة بذاتها، مشغولة عن الحبّ بألف همّ وألف عذر. ولهذا فنصوص اليوم تدعونا إلى السهر، إلى التحضير. كلّ ما له قيمة في حياتنا يستحقّ أن نهيّئ أنفسنا له، أن نهيّئ مكانًا لاستقباله. لئلاّ تتكرّر فينا مأساة الميلاد الأوّل فلا يجد الطفل له موضعًا بين همومنا.
وكيف نتحضّر؟ "مواظبين على الصلاة" يقول يسوع. ولكن ما الصلاة، وأيّ صلاة؟ إن أردنا أن نكون حاضرين لمجيء الربّ يكون تحضيرنا بالانتظار، بالتنبّه، بالرغبة. الصلاة انتظار، الصلاة تنبّه، الصلاة رغبة.
الصلاة إنتظار. كثيرًا ما نفقد الصبر في الصلاة، مطالبين الله أن يلبّي نزواتنا بدل أن نخضعها لإرادته، لمجيئه. وإن لم يعد في الصلاة من انتظار صارت تمتمات لا قيمة لها، تشغلنا عن الآتي إلينا بدل أن تحضّرنا له، أي تجعلنا حاضرين لحضوره. نحن نكره الانتظار. ومع ذلك ما لا يستحقّ أن ننتظره لا قيمة حقيقيّة له عندنا.
فهل القيمة الّتي نعطيها لعمل الله فينا أقلّ من أن تكلّفنا انتظارًا؟ الزمن يأخذ معناه من انتظاراتنا. الزمن يعطي الأرض خصوبتها، فما نزرعه بالدموع نحصده بالفرح كما يقول المزمور. وكذلك صلاتنا، هي حبلى بابن الله، ولكن من ينتظر نموّه البطيء في النفس، من يصبر إلى نضوج الثمرة؟ الزمن مفتاح القلب: قل لي أين تقضي وقتك أقل لك أين هو قلبك. فمن يعطي الوقت لانتظار الربّ هو صاحب القلب المهيّأ لاستقباله.
الصلاة تنبّه وتيقّظ وسهر. فالله يهمس كلماته يوميًّا في قلوبنا، ولكن من يصغي؟ من يتنبّه؟ قلوبنا مشرّعة أمام أصوات كثيرة، أصوات الإعلانات تدعوها إلى الاستهلاك والقصوف والسكر، أصوات الحملات الانتخابيّة تعد بالخير الّذي لا تستطيع تحقيقه وتتعهّد بالسلام الّذي تناقضه، أصوات الأنبياء الكذبة يخيفونها حيث لا خوف ويطمئنونها حيث لا اطمئنان. إلامَ تصغي بيت لحم؟ إلى أصوات التجّار والكهّان والملوك؟
لا مكان لصوت الطفل الجديد الّذي يعد بالحياة. إلامَ تصغي أنت؟ في الصلاة إصغاء أكثر من الكلام، إصغاء إلى ما يبقى في القلب من طعم ومن تذوّق بعد أن أقرأ أو أسمع الكتاب المقدّس، إصغاء إلى همسات الروح يدفعني إلى الاهتمام بالقريب قدر استطاعتي وإلى المشاركة والتضامن مع المتروكين مثل طفل المغارة. والصلاة تمييز بين الأصوات، بين صوت الخالق الّذي يعطي الحياة وصوت الكاذب قتّال الناس الّذي يدعو إلى السيطرة والكبرياء.
الصلاة أخيرًا رغبة. من صلّى ليتمّم واجبًا دينيًّا وجّه صلاته إلى إله صنم وثن لا يستطيع استجابة الطلبات. الصلاة من الرغبات تنبع، من اندفاع الحبّ، من الشوق إلى الفرح والسلام والمصالحة. إن لم تكلّفني صلاتي طاقة وتضحيات، إن لم تخترق العوائق وتواجه الظروف، لا تنشأ عن رغبة ولا تثبت. وحدهم الجياع والعطاش إلى البرّ يُشبعون.
وحدهم المشتاقون إلى عالم تسوده العدالة يفرحون بميلاد الربّ. وحدهم التوّاقون إلى الحبّ والسلام يسمعون بشرى الخلاص. وأمّا أنا، إذا أشبعت رغباتي إشباعًا كاذبًا بأنواع الملذّات الظاهرة ولم أترك فيّ فراغًا يطلب الله، فلا موضع للملائكة في برّيّتي.
من سيحتفل بعيد الميلاد؟ من واظب على الصلاة منتظرًا الربّ، مصغيًا بانتباه إلى كلمته، راغبًا في ملكوته. لمثل هذا موضع عند الربّ لأنّه جعل للربّ عنده موضعًا.
الأب داني يونس اليسوعيّ