1. تحيي الكنيسة اليوم تذكار الموتى المؤمنين، فتُقدّم الذبيحة الإلهيّة في كلّ الكنائس مع صلاة وضع البخور وأعمال المحبّة والرحمة لراحة نفوسهم. وها نحن اليوم نذكرهم ونذكر موتانا، مردِّدين: "الراحةَ الدائمة أَعطهم يا ربّ، ونورُك الأزلي فليضئ لهم، فليستريحوا بسلام". وإنّنا نعزّي كلّ الذين فقدوا عزيزًا عليهم في هذه الأيام الأخيرة، راجين لهم البلسم الإلهي.
2. أراد الربّ يسوع في انجيل اليوم، في استعارة الغني ولعازر، أن يبيّن لنا أنّ طريقنا إلى الخلاص الأبدي تمرّ بإغاثة الفقير والمحتاج، مادّيًّا ومعنويًّا وثقافيًّا. وترك لنا كلامه الإلهي الموجِّه للغني المستغيث من أجل إخوته الخمسة السالكين طريقه لئلّا يصلوا إلى مكان العذاب مثله، إذ قال له: "عندهم موسى والأنبياء" (لو16: 29). الكنيسة المؤتمنة على كلام الله ونقله وتفسيره والتعمّق فيه، هي الهادية لكلّ إنسان إلى الخلاص الأبدي، وإلى نجاته من الهلاك في جهنم.
3. لا يقصد الربّ يسوع في هذا التعليم إدانة الغنى وامتداح الفقر، بل إدانة سوء إستعمال الغنى، وامتداح فضيلة الصّبر في قبول حالة الفقر.
الغنى، ماديًّا كان أم معنويًّا أم ثقافيًّا، عطيّة من الله وامتياز لأنّه من علامات بركات الله. وقيمته أنّه يُمكّن صاحبه من أن يعكس وجه الله عندما يُعطي، ويُشرك غيره في عطايا الله أو يتقاسمها معه. وقيمته أيضًا أنّ صاحبه يُصبح يد الله المنظورة التي تُعطي وتساعد وتُشرك. ويختبر بذاته كرم الله. مشكلة ذاك الغني أنّه نسيَ المعطي الأساس، الذي هو الله، وتعلّقَ قلبه بالعطيّة، المال وخيرات الدّنيا. وبدلاً من أن يكون غنيًّا في يده وقلبه، أصبح غنيًّا بالمال وفقيرًا بالقلب من الحبّ والرّحمة والحنان. هذا التعلّق المفرط والمطلق بالعطيّة، عبّر عنه الربّ يسوع بأنّ ذاك الغني كان "يلبس البرفير والأرجوان، ويتنعّم كلّ يوم بأفخر الولائم" (لو16: 19).
ليست إذن مشكلة الغني في ممتلكاته، بل في سوء إستعمالها وسوء تصرّفاته. لم يعرف إلّا لذّة الأخذ، ولم يختبر سعادة العطاء. ما جعله أصمّ عن سماع أنين لعازر، وأعمى عن رؤيته منطرحًا في بؤسه أمام باب دارته. وسيقول لنا الرّب يسوع، عند ساعة الدّينونة، أنّه يتماهى مع كلّ "لعازر" جائع أو عطشان أو غريب أو عريان أو مريض أو سجين (راجع متى 25: 35-36).
4. أمّا الفقر فليس نعمة وبركة من الله الذي يدعو كلّ قادر، بالكثير أم بالقليل، لمساعدة الفقير من أجل إخراجه من فقره. هذا هو الهدف من استعارة الغني ولعازر. غير أنّ الفقر يُساعد الإنسان، من الناحية الإيجابيّة، على إدراك محدوديّته أمام غنى الله وقدرته، ويساعده على التّواضع والصّبر والقناعة. وهي فضائل أساسيّة نحتاجها في حياتنا اليوميّة. فيكون الفقير فقيرًا بمادّياته، أمّا بالمقابل فغنيًّا بقلبه وقيمه وكرامته.
5. في هذا الأحد والأسبوع الطالع نصلّي من أجل راحة نفوس موتانا الذين يكفّرون عن خطاياهم بآلام زمنيّة في حالة المطهر. وهي عقيدة علّمتها الكنيسة في مجامعها، ومفادها أنّ الذين يموتون في حالة النعمة وصداقة الله، ولكن غير منقّين بالكامل، ولو كان خلاصهم الأبدي أكيدًا، إنّما يخضعون بعد موتهم، لآلام زمنيّة تطهّرهم من خطاياهم، لكي ينالوا القداسة اللازمة من أجل الدخول في سعادة السماء (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1030).
في كتب العهد القديم، توجد نصوص تتكلّم عن تقديم الذبيحة التكفيرية عن الموتى، لكي يُحلّوا من خطاياهم (2 مكابيّين12: 45). والكنيسة منذ بداياتها كرّمت تذكار الموتى وقدّمت الذبيحة القربانيّة لراحة نفوسهم، لكي، بعد تطهيرهم، ينعموا بمشاهدة الله السعيدة. والكنيسة توصي أيضًا بأعمال التصدّق، والغفرانات، وأعمال التوبة من أجل الموتى (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1032).
إنّ الصلاة من أجل الموتى تندرج في شركة القدّيسين أي في صلاة التشفّع من أجلهم التي هي مشاركة في صلاة المسيح الذي يشفع من أجلنا. بقوّة شركة القدّيسين توكل الكنيسة موتاها لرحمة الله، وتقدّم من أجلهم أعمال رحمة وذبيحة القدّاس (المرجع نفسه 1055و2635).
6. "لباس البرفير والأرجوان"، هو علامة السلطة والمسؤولية. فلا يقف المسؤول عند حدود امتيازات سلطته، بل يلتزم بتأمين خير شعبه. فكلّ سلطان، بحسب ترتيب النّظام الطبيعي، هو من الله من أجل الخير العام، الذي منه خير الجميع وخير كلّ إنسان. وسيطالب الله كلّ مسؤول بالحساب عن وكالته. ويشترط عليه أن يكون أمينًا وحكيمًا. فلا تتحوّل المسؤوليّة، وهي في الأساس إنعام ونعمة، إلى إدانة ودينونة تفضي إلى الهلاك الأبدي.
الغني، وهو صورة صاحب السلطة، اساء استعمال مسؤوليّته، فاستوجب الإدانة والهلاك. هذا نداء ضمير إلى كلّ مسؤول، وبخاصّة إلى المسؤولين في الدولة واصحاب السلطة السياسية، التشريعية والإجرائية والإدارية والقضائية. لعازر هو كلّ مواطن في حاجة، وهو الشعب الذي يحتاج إلى ما يكفيه لعيش كريم، على مستوى كلٍّ من الحياة الماديّة والاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة، وللخروج من معوّقات هذا العيش.
7. السلطة السياسيّة عندنا تقف أمام مسؤوليّات جسيمة على مختلف هذه المستويات من أجل توفير الاستقرار الداخلي. فمن الأمور الملحّة النهوض بالشأن الاقتصادي، وتحقيق مشاريع إنمائية وإيجاد فرص عمل وإيقاف الهدر ومكافحة الفساد والرشوة وسلب مال الدولة وتحرير العدالة والقانون من التدخّل السياسي. ومن طليعة الأمور الملحّة سنّ قانون جديد للانتخابات ينادي ويطالب به الجميع، قانون يراعي حسن التمثيل، ويضمن القيمة لصوت المواطن، ويفسح في المجال أمام جميع مكوّنات الوطن إمكانيّة المشاركة في إدارة الشَّأن العام والحياة السياسيّة، بعيدًا عن أيّ إقصاء أو احتكار في التمثيل في المجلس النيابي، حمايةً لتداول السلطة، وتجديدًا للنخب السياسية، وتعزيزًا للتنوّع والتكامل. فهذه هي ميزة لبنان الديموقراطي التّعدّدي، المنافية للأحاديّة والإقصاء.
ايّها الإخوة والأخوات؛
8. إنّنا فيما نصلّي لراحة نفوس موتانا، نصلي أيضًا من أجل أن يدرك كلّ مسؤول، في الدولة والمجتمع والكنيسة، الواجب الملقى على عاتقه وضميره، وأن يعي أنّ إتمام الواجب طريق إلى الخلاص الأبدي، ونشيد مجد وتسبيح للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.