عيد التجديد اليوم في كنيستنا المارونيّة هي عودة إلى هذه الحقيقة، حقيقة كوننا هياكلاً للرّوح القدس، أدخلنا إليه أصنامًا كثيرة، أصنام الخطيئة والشّهوة والمادّة وحب التسلّط، هياكل تدنّست بالكبرياء والحقد والرّغبة بالأنتقام، بالكذب والوصوليّة، بروح الزنى وخيانة وصايا الرّب، بقتل الآخرين كلّ يوم بالنميمة والتهميش.
نحن هياكل مدنّسة، يرغب الرّب بالدخول إليها من جديد لتقديسها وتجديدها. عيد التجديد هو عودة إلى حقيقة أنّنا خراف في قطيع المسيح، فلا معنى لوجودنا كمسيحيّين إن رفضنا حقيقتنا كأفراد في عائلة تسمّى الكنيسة، جسد المسيح العامل في العالم من أجل خلاص العالم، ونحن أعضاء هذا الجسد، كلّ منّا يقوم بدوره من أجل خلاص الإخوة من كلّ لون ولسان.
خلاص العالم تعيقه خطيئتنا، وتجديدنا وتقديسنا أساسيان، لا لخلاصنا فقط، بل لخلاص العالم ودخوله في حياة المسيح. تجديدنا وتقديسنا يقوم على تجديد انتمائنا للكنيسة والطاعة لها. أن نكون خرافاً في قطيع المسيح يعني أن نجدّد كلّ يوم إيماننا بالراعي وبقدرته على إيصالنا الى حيث يقودنا، الى خلاصنا وخلاص الكون بأسره.
أن نكون خرافاً في قطيع الكنيسة يعني أن نكون رجالاً ونساءً أحرارًا، بحرّيتنا نتبع المسيح، لا بسبب خوف من العقاب، ولا بسبب وسواس وقلق مرضيّ، ولا بسبب عادة أو تقاليد، بل لأنّنا لمسنا شخصيّاً حبّ المسيح في حياتنا، وعلمنا أنّه صديق وفيّ حاضر في حياتنا دومًا. أن نجدّد كنيستنا ونقدّسها يعني أن نقدّس إيماننا بالكنيسة ونجدّد عهد انتمائنا لها بالإيمان بكلمة الرّب والطاعة لتعليم كنيسته لأنّها مؤتمنة على هذه الكلمة.
لقد جاء المسيح ليعطينا الحياة الأبدية، ليعطي وجودنا معنى أسمى من وجود أرضيّ عابر، جاء الرّاعي ليقول لنا أنّ حياتنا لا يمكنها أن تبدأ دون هدف وتنتهي دون معنى. لقد جاء ليقودنا إلى معنى حياتنا الحقيقيّ، معنى نفتّش عنه كلّ يوم ونجدّد رغبتنا في بلوغه كلّ لحظة. لقد جاء "يعطي قطيعه الحياة الأبديّة فلا يخطفها منه أحد ولا يهلك أي من الخراف".
تجديد حياتنا هو أن نعي من هو الرّاعي الحقيقيّ، وأن نعلم ما الفرق بين الرّاعي الصّالح الذي يعطي الحياة والسّارق الذي جاء يخطف ويهلك. كثير من الرّعاة الكذبة يوهموننا الخلاص كلّ يوم، منهم من يقدّم لنا منطق الّلذة، آخرون المال، آخرون وهم الشباب الدّائم والجمال الذي لا يذوي... المسيح جاء يقول لنا أن الأهمّ هو السّعي الى ما هو أساسيّ، ما لا يعبر ولا ينتهي. المسيح يعلن ذاته مخلّصًا لا بصراخ الرّعاة الكاذبين، ولا بخداع مُسحاء الوهم والسّراب، المسيح يأتي راعيًا وديعًا، يعمل بصمت ووداعة، ويترك لنا حرّية الإختيار.
تجديد أنفسنا كهياكل للرّوح القدس هو أن نعي دعوة الله لنا "أن نكون آلهة"، أن نكون آلهة بالتبنّي، حين نقبل أن يكون الله أب لنا. الله يدعونا الى حالة الألوهة، الى أن نرتفع عن تفاهة الحياة الماديّة وأن نعي أن لوجودنا معنى أعمق وأسمى من مجرد حياة نحياها على نطاق حيوانيّ. دعوتنا أن نصبح آلهة من خلال إتّحادنا بالله.
خلقنا لنشاركه في خلاص كلّ إنسان أينما كنّا وبالمقدّرات الّتي أعطانا إيّاها الله مهما كانت متواضعة.
تجديد هيكلنا هو انطلاق في مسيرة تألّه للوصول الى الإتّحاد الرّوحيّ بالله مصدر وجودنا، إتّحاد نصل إليه من خلال: الصّلاة: أي أن نحيا حالة صلة دائمة مع الرّب الحاضر في حياتنا.
الصّلاة هي تجسيد لإيماننا بحضور الله في حياتنا، وهي عمل رفع لنفسنا ولفكرنا ولروحنا نحو الله الذي يحبّنا ويخلّصنا. الصّلاة هي حوار حبّ وصداقة، وهي مصدر نعمة تساعدنا على الإتّحاد بالله للوصول الى تجسيد حقيقة بنوّتنا الإلهيّة.
التوبة: هي أن نحيا وجودنا متيقّنين أنّنا بحاجة لله دومًا، فمن دونه لا معنى لوجودنا، وبتغييبنا لله عن حياتنا نحوّل وجودنا الى مجموعة لحظات عابرة دون معنى ودون هدف. التوبة هي أن نحيا سرّ الرّجاء، أن نعرف أنّ الله حاضر في حياتنا، مستعدّ لقبولنا مهما عظمت خطيئتنا. فالله يفتح لنا بابه في كلّ لحظة، لأنّه يريد أن يدخل هيكل حياتنا ليجدّده ويقدّسه.
الكنيسة: هي عائلتنا، وهي جماعة مجاهدين يحيون الحبّ للوصول الى ملكوت السّماء، والى تحقيق ملكوت الله في حياتنا وفي عالمنا. الكنيسة هي ملكوت الله على الأرض، رغم خطيئة أبنائها، تتقدّس بالمسيح رأس جسدها. تجديد البيعة اليوم يعني تجديد ثقتنا بالكنيسة أمّنا، بالكنيسة عائلتنا، بالكنيسة معلّمتنا، التي حافظت على مرّ العصور على التعليم الذي وصل إلينا من الرّب عبر الرّسل. تجديد الكنيسة يعني أن نجدّد ثقتنا برعاتها، نحبّهم، نصلّي من أجلهم، نكفّ عن انتقادهم ونساعدهم ليتقدّسوا. الكنيسة هي رعيّة المسيح، ونحن واحد من هذا القطيع، هلاك الرعيّة هو هلاك كلّ واحد منّا، تجديدها يبتدئ بتجديدنا الشخصيّ، وتقديسها لا يتمّ دون قداستنا.
الأسرار: هي وسيلة أعطانا إيّاها السيّد تساعدنا على قداستنا. المعموديّة تُدخلنا في حياة المسيح وتجعل منّا أعضاء في جسده المقدّس.
الإفخارستيّا هي زاد الحياة تعطينا القوّة لإكمال مسيرتنا نحو القداسة. دون الإفخارستّيا لا يمكننا أن نحيا اتّحادنا الكامل بالرّب في هذا العالم، هي مقدّمة لاتّحادنا الكامل بالله مصدر سعادتنا حين نصبح في بيت الآب. التوبة هي سرّ المصالحة مع السيّد، في كلّ مرّة نجرح حبّه لنا بخطيئتنا وكبريائنا. الأسرار كلّها في نعمة تجديد وتقديس وهبها الرّب لكنيسته، ليجدّد هيكلنا، ويقدّسنا لنصبح بكلّيتنا له، ننشر من خلال شهادة حياتنا إنجيل خلاصه.
تبقى مريم مثالنا في التجدّد والتقدّس، هي هيكل طاهر حلّ فيه المسيح كلمة الآب بقوّة الرّوح، صار وجودها بأكمله نشيد عبادة للثالوت الأقدس، ابنة الأب، أمّ الإبن وهيكل الرّوح الأقدس.
تقديس الكنيسة وتجديدها يجد مثاله في اختبار مريم التّي عاشت بطولة الإيمان في كلّ لحظة من حياتها، وعلمت أن غايتها الوحيدة هي أن تكون طاهرة دومًا ليتحّقق من خلالها حلول الله في حياة كلّ واحد منّا.
مريم تعلّمنا الطاعة وقبول إرادة الله في حياتنا في أن نكون مقدّسين، مريم تعلّمنا خدمة الكلمة، هي التي كرّست حياتها لخدمة الكلمة المتجسّد، مريم تعلّمنا أن نكون هياكل مقدّسة، يجدّدها الرب كلّ يوم بنعمته، من خلال صلاتنا، وحبّنا وخدمة كلّ محتاج.
الأب بيار نجم.