عظة البطريرك في ختام السينودس

متفرقات

عظة البطريرك في ختام السينودس

 

عظة البطريرك في ختام سينودس أساقفة الكنيسة المارونية

 

 

"ما جئتُ لأحمل إلى العالم سلامًا، بل سيفًا" (متى 10: 34)

 

 

إخواني السّادة المطارنة والآباء

 

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء

 

1. في ختام أسبوع أعمال السينودس المقدّس الذي سبقه أسبوع الرياضة الروحيّة، وقد سمعنا فيهما ما يقوله الله لنا، كرعاة في كنيسته، وما تنطق به حاجات شعبنا وأبناء أبرشياتنا، وما يواجهون، ونحن معهم، من تحدّيات روحيّة وراعويّة واجتماعيّة ووطنيّة، يقول لنا الربّ يسوع في إنجيل اليوم، كلامًا يبدو للوهلة الأولى تناقضيًّا: "ما جئتُ لأحمل إلى العالم سلامًا، بل سيفًا" (متى 10: 34).

 

2. أجل في الظاهر نحن أمام تناقض بين آمال الشعب الذي ينتظر مسيحًا يكون "أمير السلام" كما تنبّأ أشعيا (9: 5)، وإعلان يسوع بأنّه جاء يحمل سيفًا ويفرّق بين الإنسان وأهل بيته، بل في داخل حياته بالذات! كيف يكون ذلك والربّ يسوع نفسه، أعلن في عظة الجبل "طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعَون" (متى 5: 9). ثمّ أرسل تلاميذه ليعلنوا للناس ملكوت السلام (متى 10: 12-13).

 

 

3. هذا السيف يعني كلمة الله التي تقول عنها الرسالة إلى العبرانيين: "إنّ كلمة الله حيّة وفاعلة، أمضى من كلّ سيف ذي حدَّين، تنفذ في الأعماق ما بين النفس والروح" (عبر4: 12). هذا السيف - الكلمة يقتضي التضحية بالأشياء والأشخاص الأحبّ عندنا من أجل المسيح ونشر الملكوت. فلا الأب والأم أفضل منه، ولا الإبن والإبنة كذلك.

 

كما يقتضي إخلاء الذات: "مَن ضحّى بحياته حفظها" (متى  10: 39). فحين يستعدّ المؤمن الحقيقي، إكليريكيًّا كان أم مدنيًّا، أن يخسر كلّ شيء من أجل المسيح، عند ذاك يربح كلّ شيء. هذه القاعدة عاشها واختبرها بفرح القدّيسون، أمثال القديس شربل في محبسة عنايا، والطوباوي الأخ اسطفان في حقل الدير، والقديس فرنسيس الأسيزي في فقره الكامل، والقديسة رفقا في عماها وتفكّك أوصال جسدها. يسوع نفسه، يقول عنه القدّيس بولس: "إنّه أخلى ذاته، وهو الله، واضع نفسه، وصار على شبه البشر، واخذ حالة العبد، وأطاع حتى الموت على الصليب". ويدعونا الرسول "لنتخلّق بأخلاق المسيح" (فيل2: 5-8).

 

4. نحن الذين دعانا المسيح إلى الخدمة الأسقفية، كما دعا في السابق بعضًا منا إلى الحياة الرهبانية وبعضًا إلى الكهنوت الأبرشي، وقد تركنا أهلنا وأحبّاءنا واتّبعنا المسيح، لنكون خاصّته وأحبّاءه، متفرّغين له ومحرَّرين من القيود العائلية والمدنيّة بغية الانصراف إلى خدمة الرسالة الموكولة إلينا في أيّ مكان يرسلنا إليه المسيح وفي أيّة حالة يريدنا أن نكون. من هذه العلاقة مع المسيح والكنيسة تولد الفضائل الإنجيلية: التجرّد والتواضع، والبساطة والطاعة.

 

هذه الفضائل تشكّل مصدر حرّيتنا الداخلية وقوّتنا الروحية وغيرتنا الرسولية، ومحبّتنا الراعوية، وقد ميّزت روحانيّتنا المارونية، وأوصانا بها، نحن البطريرك والأساقفة، المجمع البطريركي الماروني في نصّه السادس الخاصّ بنا (42-48).

 

هذه الروحانية هي التي دفعت أبانا القديس مارون وتلاميذه إلى قمم النسك ليغوصوا في أعماق النفس، ويزهدوا بكلّ شيء ليربحوا المسيح. عندما دعا يسوع تلاميذه، واحدًا واحدًا، "تركوا كلّ شيء وتبعوه" (متى 4: 18-22؛ مر2: 14). نحن أيضًا مرّ الربّ يسوع مرّةً في صباح حياتنا ودعانا "فتركنا كلّ شيء وتبعناه"، واخترنا طوعًا السَّير على خطاه، حاملين صليبه، وملتزمين رسالته من أجل نشر ملكوت الله.

 

6. "السيف - الكلمة" يطال جميع الناس وبخاصّة الذين يتولّون العمل السياسي والشأن العام. فهؤلاء لا يستطيعون القيام بعمل سياسي يهدف إلى تأمين الخير العام، وخدمة جميع المواطنين، وإنشاء دولة القانون والحقّ والعدالة، حامية الجميع وضامنة حقوقهم وسلامتهم، ما لم يحرّرهم سيفُ - الكلمة، سيف القيم الروحية والإنجيلية والأخلاقية، من ذواتهم ومصالحهم التي تعطّل الصالح العام، وفي طليعته انتخاب رئيس للجمهورية، وإعادة الحياة الى المؤسسات الدستورية وسائر المؤسسات التي تجعل من الدولة دولة قادرة ومنتجة وفاعلة، والكفّ عن التّهم والاساءات المغرضة بين اهل الحكم. انه لمخطئ حقًا من لا يرى النجاح إلاّ في الغنى والنفوذ والسلطة والسلاح، ويعتبر أن الحياة من أجل ملكوت الله خسارة.

 

7. إننا نرفع هذه الليتورجيا القربانية ذبيحة شكر لله الذي جمعنا بروحه القدوس في هذين الأسبوعين. فأتاح لنا أن نعيش جمال الشركة الروحية، وطمأنينة العمل المجمعي الذي مكّننا من التفكير معًا، وتشخيص واقع ابرشياتنا في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار ورسم الخطط الروحية والراعوية والتدبيرية، بحيث تكون ابرشياتنا ورعايانا ورهبانياتنا واديارنا، ومؤسساتنا ومنظماتنا الرسولية، جماعاتٍ حيّة واعية لما هي عليه، وتسعى بالتزام وجدّية الى خدمة المحبة والحقيقة والعدالة والرحمة. وهي بذلك تحقق هويتها ورسالتها بالاتكال على نعمة المسيح سيّدها، وعلى تشفّع قدّيسيها، وعلى تجذّر حضورها وقوة تراثها.

 

8. فلنعد، أيها الأخوة الأجلاء، إلى أبرشياتنا وأمكنة عملنا الرسولي، ونحن نخرج من خلوتنا، مثل رسل المسيح من العلّية، وقد ملاءهم الروح القدس، "فذهبوا يكرزون بالانجيل في كل مكان، وكان الرب يعضدهم ويؤيّد كلامهم بالآيات" (مر 16: 20). ومعًا نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس في ختام سينودس أساقفة الكنيسة المارونية

 

بكركي في 17 حزيران 2016