عظة البطريرك الراعي - الديمان

متفرقات

عظة البطريرك الراعي - الديمان

 

 

 

"الذي وقع في الأرض الطيّبة هم الذين يسمعون الكلمة

             بقلبٍ نقيّ صالح، فيثمرون بالصبر" (لو 8 : 15).

 

 

 

 

1. كلمة الله الصّادرة من قلب الله موجّهة لتستقرّ في قلب الإنسان، مثل حبّة الزرع التي يزرعها الزارع لتسقط في الأرض الطيّبة، فتعطي الواحدة مئة. وقد شبّه بها الربّ يسوع "الذين يسمعون كلمة الله بقلبٍ نقيّ صالح، فيثمرون بالصبر" (لو 15:8).

 

 

 

 

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، فأرحّب بكم جميعًا. وبخاصة برعيّة كفرصغاب العزيزة، كهنة ومؤمنين. ونلتمس من الله أن يمكّننا بنعمته من أن نجعل قلوبنا مثل الأرض الطيّبة. ونستطيع ذلك بالصّلاة وممارسة سرّ التوبة وإعداد الذات الداخليّة لسماع كلام الله وقبوله في قلوبنا.

 

 

 

3. إنّ كلمة الله فاعلة دائمًا بحدّ ذاتها، ولكن يعود لكلّ إنسان أن يقبلها بحبّ وحريّة مسؤوليَّة. فالكلمة الإلهيّة هي إيّاها التي صارت بشرًا من مريم العذراء واتّخذت اسمًا في التاريخ "يسوع المسيح". ولهذا هي فاعلة بحدّ ذاتها، فيشبّهها أشعيا النبيّ بالمطر والثلج، فيقول بلسان الله: "كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك، بل يروي الأرض ويجعلها تنبت لتؤتي الزارع زرعًا، والآكل طعامًا، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليّ فارغة، بل تتمّ ما شئت، وتنجح في ما أرسلتها له" (أشعيا 55: 10-11). ويوحنّا المعمدان يشبّهها بالفأس على أصل الشجرة، فهي موجّهة إلى تنقية الذات، والقيام بأعمال تليق بالتوبة (متى 3: 9-10).

 

 

 

4. بتشبيه كلمة الله بالزرع، يدعونا الربّ يسوع إلى حماية قلوبنا من ثلاثة مخاطر معادية لها: السطحيّة والتحجّر والانهماك.

 

 

 

القلب السّطحي، مشبَّه بحاشية الطريق. صاحبه يسمع كلمة الله بسطحيّة من دون اهتمام بها واكتراث: فتتلاشى ساعة سماعها، وتسقط أمام أيّة صعوبة أو تجربة أو مصلحة ذاتيّة.

 

 

 

القلب المتحجّر، مشبَّه بالأرض الحجريّة. صاحبه يقبل الكلمة ويفرح بها. ولكن سرعان ما تموت فيه، لأنّه خالٍ من المناعة الروحيّة التي نكتسبها بالصَّلاة والتأمّل والممارسة الأسراريّة. فينساها للحال عندما يعود إلى واقع حياته. يشبّه القدّيس يعقوب الرَّسول هذه الحالة بالشّخص الذي "يرى وجهه في المرآة ويمضي. فينسى كيف كان. هذا يقبل الكلمة ولا يعمل بها" ( يعقوب1: 22-25).

 

 

 

 

القلب المنهمك، مشبَّه بالأرض المملوءة أشواكًا. صاحبه يقبل الكلمة، ولكنّه يفضّل عليها اهتماماته الدنيويّة المفرطة التي يعطيها الأولويّة، كالسّعي إلى المال بشتّى الطرق وإلى الملذّات، والغرق في الماديّات والروح الإستهلاكيّة.

 

 

 

هذه المواقف الداخليّة، إذا سمعنا بها كلام الله، لا تثمر فينا أعمالاً صالحة. لا تغنينا بالقيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، ولا تولّد عندنا السّعي إلى العطاء والتفاني بالأعمال الصالحة والمبادرات البنّاءة، ولا الحرص على ممارسة العدالة والرَّحمة ومساعدة المحتاجين، ولا العمل على  رفع الظّلم والاعتداء على حقوق الغير.

 

 

 

5. أمّا الموقف الداخليّ الذي يريده الله منّا فهو القلب الطيّب المشبّه بالأرض المفلوحة والمنقّاة من الحجارة والشّوك. فيكون مهيّأ لقبول كلام الله، إذ يحتضنه بعمق ويتأمّل فيه، حتى أنّه يصبح حياة ظاهرة في الأفعال والمبادرات. وهذا يقتضي أن نرتوي من كلام الله كلّ يوم، فهو مثل "الينبوع الذي لا ينضب ويروي ظمأ كلّ عطشان"، على ما يقول القدِّيس أفرام السّرياني. أمّا سماعه اليوميّ فهو حاجة لأنّنا "بسماعه نؤمنوإذ نؤمن نترجّى، وفيما نترجّى نحبّ"، كما يقول القدّيس أغسطينوس. وهو حاجة لكلّ إنسان، فهو "مصباح ينير خطاه ويهديه إلى الطريق المستقيم" (المزمور 118). وهو حاجة لكلّ مسؤول سواء في العائلة أم في المجتمع، أم في الكنيسة أم في الدولة.

 

 

 

6. لماذا الأمور متعثّرة في العالم وبنوع خاص عندنا في لبنان؟ أليس لأنّ المسؤولين، بدلاً من أن يسمعوا كلام الله، يسمعون بالأحرى "كلمة" أهوائهم ومصالحهم وحساباتهم، وربّما كلمة الخارج، من دون أي اعتبار أو اهتمام بالخير العام وبالشعب وبمصالح الدولة؟ الأمر الذي يمنع لبنان من أن يسير في رُكب التطوّر والنموّ والازدهار، فينعم بثقة الدول الأخرى؟

 

 

 

 

ما هو المبرّر لتعثّر تأليف الحكومة سوى المصالح الشخصيّة والفئويّة وسجالات توزيع الحقائب على حساب الصالح العام؟ فيما هم يهملون الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزّم، من دون أيّ مسعى لوضع خطة إنقاذيّة؟ ويتعامون عن العجز العام المتزايد، وقد قفز من 2,3 مليار دولار في سنة 2011 إلى أكثر من 6 مليار في السنة الحاليّة 2018؟ ومع هذا، ما زالت مصاريف الدولة على تزايد، وما زال النموّ الضريبي مخيّبًا. ثمّ إنّ الوضع الاقتصادي الضعيف خضع إلى محنة صعبة عندما تبنّت الدولة في صيف 2017 زيادة الضرائب والرسوم، الأمر الذي أضعف قدرة اللبنانيِّين الشرائيَّة.

 

 

 

 

7. وجاء القانون 46/2017 الخاص بسلسلة الرتب والرواتب ليزيد الأعباء على الدولة، وليرهق خزينتها الضعيفة أصلاً، فضلاً عن إرهاق أهالي التلامذة في المؤسّسات التربويّة الخاصّة، بسبب وجوب زيادة الأقساط المدرسيّة من أجل تأمين العلم والاستمرار فيه. فكانت النتيجة بداية أزمة اجتماعيّة وتربويّة جديدة لا تخفى على أحد. فهل الدولة ذاهبة إلى تقويض التعليم الخاص وهدم المستوى العلمي الذي يميّز لبنان؟

 

 

 

8. وما القول عن الجامعات التي تنبت كالفطر، ويتدنّى فيها المستوى، وتوزّع التراخيص لا على أساس المعايير المقرّرة، بل انطلاقًا من التخاصص السياسي والطائفي، ومن منظور تجاري. الأمر الذي يؤدّي إلى تزوير الشهادات الأكاديميَّة وبيعها. فاحتجاجًا على هذا الواقع المضرّ والمعيب، انسحبت اثنتان من كبريات الجامعات الخاصّة، جامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية، من "رابطة جامعات لبنان". فهل هذا يعني شيئًا للمسؤولين عندنا؟

 

 

 

 

9. أجل، وحدها كلمة الله الموجّهة إلى كلّ إنسان تُصلح جميع الشؤون الزمنيّة، كما العائليّة والكنسيّة والسياسيّة. فبدونها وبالاستغناء عنها، يتخبّط الجميع في الظلمات. نسأل الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، أمّ الكلمة، أن ينبّه قلوبنا ويفتح عقولنا لسماعها. فتصبح ثمارها في حياتنا نشيد تسبيح وتمجيد للثالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين.

 

 

 

موقع بكركي.