عظة البطريرك - أحد شفاء الأبرص

متفرقات

عظة البطريرك - أحد شفاء الأبرص

 

 

 

 

 

 

"إن شئتَ، فأنت قادرٌ أن تُطهّرَني" (مر1: 40)  

                     

1. في هذا الأحد الثاني من زمن الصوم الكبير، تقرأ الكنيسة إنجيل شفاء الأبرص الذي يرمز إلى برص الإنسان الداخلي بنتيجة حالة الخطيئة التي يعيش فيها ويستمرّ. وقد جاء الفادي الإلهي، ربّنا يسوع المسيح، ليشفيَنا منها. فكما البرص قروح تتآكل وجه المصاب ويدَيه ورجلَيه وكلّ جسمه وتؤدّي إلى موته، كذلك حالة الخطيئة المزمنة تتآكل قلب الإنسان ونفسه وروحه، وتقتل فيه القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة وروح المسؤولية ومقتضيات الواجب.

 

لقد أتى الأبرص إلى يسوع بشجاعة الإيمان، بالرغم من أنّ الشريعة تمنعه عن مخالطة الناس، لأنّ برصه مرض معدٍ وقتّال. لم يخفْ منهم بل تحمّل إهاناتهم، وتألّم من ابتعادهم عنه وكأنّه وباء. كان همُّه أن يُري نفسه يسوع، ويتوسّل إليه بثقة تامّة، قابلًا بما يشاء له الله: "فجثا وقال له: إن شئتَ فأنت قادر أن تطهّرني" (الآية 40).

 

جميل هذا الجمع بين الإيمان بأنّ يسوع قادر على شفائه من برصه، والتسليم للمشيئة الإلهيّة. وهو بذلك يقبل من الله كلّ شيء. وكأنّه يقول: "انا أريد ما تريده أنت. فلتكن مشيئتك". إنّها أجمل صلاة نرفعها إلى الله وبخاصّة في أوقات الضيق.

 

2. إنّنا نجتمع معًا راجين أن يمنحنا الله إيمان الأبرص وإدراكه، وشجاعته وتواضعه فندرك نتائج حالة الخطيئة التي نألفها فيما هي تستنزفنا، ونأتي إلى المسيح بثقة في سرّ التوبة، نجثو أمامه بانسحاق قلب وتواضع، ونقول مثل الأبرص: "يا ربّ، إن شئتَ فأنت قادر أن تشفيَني" (مر1: 40).

 

3. الخطيئة هي مخالفةٌ لوصايا الله وتعليمه في الكتب المقدّسة وتعليم الكنيسة. وهي إهمال لواجب الحالة أو المسؤوليّة سواء في العائلة أم في الكنيسة أم في الدولة. وهي أيضًا سوء استعمال السلطة والمال وخيرات الارض.

 

هذه الأنواع الثلاثة من الخطايا، إذا أصبحت حالة في حياة الشخص، من حيث هي أفعال تتكرّر، ولا يتوب عنها، ولا يصحّح مجرى حياته، تضحي برصًا داخليًّا قتّالًا. فيكون هذا "البرص" منبع الحالة التي يتخبَّط فيها مجتمعنا: فساد وانحطاط في الأخلاق، إقطاعيّة سياسيّة تعطّل القانون والعدالة، مصالح شخصيّة وفئويّة ومذهبيّة تعرقل مسيرة المؤسّسات العامّة وبخاصّة أجهزة الرقابة، استيلاء على أموال الدولة ونهبها وهدر مال الخزينة، رشوات وخوّات تحطّم الرغبة في الاستثمار وإنشاء المشاريع الإنمائيّة في المناطق، ممارسة سياسة لا توفّر الخير العام وتهمل مصالح المواطنين وخيرهم وحقوقهم، وخير البلاد وإنماءه، التلكّؤ منذ سنوات عن إقرار الموازنة وسلسلة الرتب والرواتب وعرقلة إصدار قانون جديد للانتخابات على قياس الدولة والشعب، إهمال حلّ قضية النفايات والعناية بالبيئة السليمة والصحة العامة. كلّ هذه الحالات هي برص اجتماعي قتّال. نأمل من ذوي الإرادة الحسنة العمل على إزالته.

 

4. عندما أزال الربّ يسوع برص الأبرص أصبح طاهرًا منه بالكلّية، وكأنّه خلقه من جديد بلمسة يد وكلمة. هكذا عندما يمنحنا الله الحلَّ من خطايانا، بواسطة الكاهن، الذي نسمع منه، ونحن تائبون حقًّا، كلمة الغفران الإلهي، فإن الله يخلق فينا قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا.

 

5. وعندما أمره يسوع أن "يُري نفسه للكاهن ويقدّم قربانًا لله عن شفائه" (راجع الآية 44)، كانت هكذا تأمر الشريعة وتولي كاهن العهد القديم الحقّ الشرعي بأن يتحقّق من مرض البرص ويأمر الأبرص بالعيش خارج الجماعة. وإليه نفسه يعود الأبرص، إذا شفي، لكي يعلن شفاءه، ويسمح بعودته إلى الحياة وسط الجماعة.

 

في العهد الجديد، الكاهن مؤتمن على سلطان إلهي يقضي كقاضٍ، بوجود الخطيئة ودرجتها وحقيقتها وأهميّتها، وكوسيط مقام بين الله والناس، يمنح الغفران من الخطايا للتائبِ الحقيقي. وكما أنّ الخطيئة تفصل الخاطي بذات الفعل عن الشّركة الروحيّة مع الله والجماعة المؤمنة، وبالتالي تمنعه من تناول جسد الربّ ودمه، كذلك عندما ينال غفران الخطايا، يعود إلى حياة الشّركة ويتقدّم من المناولة القربانيّة.

 

أما القربان عن الشفاء فهو، في العهد الجديد، ذبيحة الرب يسوع في القداس التي يقدّمها المؤمنون صلاة شكرٍ لله على رحمته وحنانه وشفائه لنا وعلى سائر نعمه. يومُ الأحد، المعروف بيوم الربّ، هو الذي تجتمع فيه جماعة المؤمنين لهذه الغاية، ويوطّدون رباط المحبة والوحدة والتضامن. ولذا تُسمَّى الذبيحة الإلهيّة باليونانيّة "إفخارستيا" أي صلاة الشكر. ونقدِّم معها قرابين أعمالنا الصالحة وأوجاعنا وآلامنا.

 

6. لم يستطع الأبرص الذي شُفي أن يكتم "الخبر السّار"، بل "راح ينادي بأعلى صوته ويذيع الخبر" (الآية 45). راح يعلن خبر حبّ الله ورحمته وقدرته الفائقة. هذا ما تفعله الكنيسة والجماعة المؤمنة في الصلوات الليتورجيّة وصلوات الساعات وفي سائر المناسبات الروحية وبخاصة في رسالتها الخلاصية. لم يبشّر هذا الرجل بنفسه بل بالربّ يسوع مخلّص الجميع.

 

7. نسأل الله أن يجعل زمن الصوم الكبير مناسبة لإدراك واقع حياتنا على ضوء كلام الله وتعليم الكنيسة، وللبلوغ إلى توبة داخلية تفضي بنا إلى تصحيح مجرى حياتنا. فنستحقّ أن نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 موقع بكركي.