عظة البابا في عيد قلب يسوع الأقدس

متفرقات

عظة البابا في عيد قلب يسوع الأقدس

 

 

 

 عظة البابا في عيد قلب يسوع الأقدس

 

نحن مدعوُّون، إذ نحتفل بيوبيل الكهنة في عيد قلب يسوع الأقدس، إلى استهداف القلب، أم بالأصح الباطن، الجذور الأقوى للحياة، نواة المشاعر، بكلمة مختصرة، استهداف قلب الإنسان. ونوجِّه نظرنا اليوم إلى قلبين: قلب الرَّاعي الصَّالح وقلبنا نحن كرعاة.   

 

إنّ قلب الرَّاعي الصَّالح ليس القلب الذي يرحمنا نحن فقط، إنّما هو الرَّحمة بذاتها. هناك، تسطع محبّة الآب؛ هناك أشعر بثقة بأني مقبول ومفهوم كما أنا؛ هناك، مع كلِّ محدوديّاتي وخطاياي، أتذوّق يقين أنني مختار ومحبوب. وناظرًا إلى ذاك القلب، أجدّد حبّي الأوّل: أتذكّر حين لمس الرّب روحي ودعاني لأتبعه، وأفرح لأنّي رميت شباك حياتي بناءً على كلمته (را. لو 5، 5).

 

يقول لنا قلب الرَّاعي الصَّالح أنَّه ما من حدود لحبِّه، وأنَّه لا يتعب ولا يستسلم أبدًا. هناك نرى العطاء الذاتيّ المتواصل لديه، ودون حدود؛ هناك نجد مصدر المحبّة الأمينة والمتواضعة، التي تتركنا أحرارًا والتي تحرّرنا؛ هناك نكتشف من جديد، كلّ مرّة، أنّ يسوع يحبّنا "إِلى أَقْصى الحُدودِ" (يو 13، 1)، -لا يتوقـَّف الأوّل، يحبُّنا إِلى أَقْصى الحُدودِ - دون أن يفرض نفسه أبدًا.

 

قلب الرَّاعي الصَّالح يميل نحونا، "مستقطب" بشكلٍ خاص لمن هو الأبعد؛ هناك يوجّه، بعنادٍ، إبرةَ بوصلته، هناك يُظهر ضعفَ محبّةٍ خاصّة، لأنّه يتمنّى أن يصل إلى الجميع وألّا يفقد أحد.

 

أمام قلب يسوع، يتكوّن السؤال الأساسيّ في حياتنا الكهنوتيّة: أين وجّهت قلبي؟ إنّه سؤال يجب علينا نحن الكهنة أن نطرحه على أنفسنا مرَّاتٍ عديدة، كلّ يوم، كلّ أسبوع: أين وجّهت قلبي؟ غالبًا ما تكون الخدمة مملوءة من الكثير من المبادرات، التي "تعرُضُه" على جبهات عدّة: من التعليم الدينيّ إلى الليتورجيّا، والأعمال الخيريّة، والالتزامات الرَّعويَّة والإداريَّة أيضًا.

 

في وسط الكثير من النشاطات، يبقى السؤال: أين ركّزت قلبي؟ تعود إلى ذهني صلاة ليتورجيّة جميلة: "حيث يكون الفرح الحقيقيّ...".  إلام يهدف، عن أيّ كنز يبحث؟ لأنه - يقول يسوع - "حَيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قلبُكَ" (متى 6، 21). لدى كلٍّ منّا نقاط ضعف، وأيضًا خطايا. ولكن دعونا نذهب الى العمق، إلى الجذور: أين هو جذر ضعفنا، وخطايانا، أي أين هو ذاك "الكنز" بالتحديد الذي يبعدنا عن الرّبّ؟

 

لقلب يسوع كنزين لا بديل لهما: الآب ونحن. فقد كانت أيَّامه تمرّ بين الصَّلاة للآب واللقاء بالناس. لا المسافة، بل اللقاء. وقلب راعي المسيح أيضًا يعرف وجهتين فقط: الرَّب والناس. قلب الكاهن هو قلبٌ اخترقه حبُّ الرَّبّ؛ لذا فهو لا ينظر بعد إلى ذاته - لا ينبغي أن ينظر إلى ذاته -، إنّما يلتفت إلى الله وإلى الإخوة. ليس بعد "قلبٌ راقصٌ"، يسمح لاقتراحات الزمن باجتذابه أو يذهب هنا وهناك بحثًا عن الإرضاء والمسرّات الصغيرة؛ بل على العكس هو قلب ثابت في الرَّبّ، مُقَيّد بالرُّوح القدس، منفتح على الإخوة وجاهز لهم. وهنا يحلّ  من خطاياه.

 

كي نساعد قلبنا على الاشتعال بحبّ يسوع الرَّاعي الصَّالح، يمكننا أن نتمرّن على تبنّي ثلاثة أفعال تطرحها علينا قراءات اليوم: نبحث، ونضمّ ونفرح.

 

نبحث. لقد ذكّرنا النبي حزقيال أنَّ الله بذاته يبحث عن خرافه (34، 11. 16). إن الله، يقول الإنجيل، "يَسْعى إِلى الضَّالِّ حتَّى يَجِدَه" (لو 15، 4)، دون أن يخاف من المخاطر؛ بل يخاطر بنفسه دون تردّد خارج أماكن الرعيّ وخارج الأوقات المحدّدة للعمل. ولا يطلب أجر العمل الإضافيّ.

 

لا يؤجّل البحث، ولا يفكر قائلًا "لقد قمت بواجبي اليوم، وربما أهتمّ بهذا غدًا"، إنّما يبدأ العمل على الفور؛ قلبه لا يرتاح إلى أن يجد ذاك الخروف الضال. وحين يجده، ينسى التعب ويحمله على كتفيه بكلّ فرح. عليه بعض الأحيان الذهاب للبحث عنه، والتحدث إليه، وإقناعه؛ وفي أحيانٍ أخرى عليه أن يبقى أمام بيت القربان المقدّس، يصارع الرَّبَّ من أجل ذاك الخروف.

 

هذا هو القلب الذي يبحث: إنّه قلب لا يخصخص الأوقات والأماكن. ويل للرّعاة الذين يخصخصون خدمتهم! الرَّاعي لا يتعلّق براحته المشروعة - أقول أنّها مشروعة، ولكنّه لا يتعلّق حتى بهذه -، ولا يطالب أبدًا بألّا يزعجه أحد. الرَّاعي حسب قلب الله لا يدافع عن راحته الخاصَّة، ولا يهتمُّ لسمعته، بل سوف يُفترى عليه، مثل يسوع. إنّه مستعدّ، ودون أي خوف من الانتقادات، أن يُخاطر حتى وأن يتشبّه بربّه. "طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم" (متى 5، 11).

 

الرَّاعي حسب يسوع له قلب حرّ يتخلّى عن أموره، لا يعيش حاسبًا ما لديه وساعات خدمته: ليس محاسب الرّوح، إنّما سامريّ صالح يبحث عن المحتاج. إنّه راعٍ، وليس مفتّش القطيع، يكرّس نفسه للرِّسالة وليس خمسين أو ستّين بالمئة، إنما بكلّ ذاته. يذهب للبحث ويَجِد، يَجِد لأنّه يخاطر.

 

إن كان الرَّاعي لا يخاطر، فهو لا يَجِد. إنّه لا يتوقـَّف أمام خيبات الأمل، ولا يستسلم في التعب؛ إنّه في الواقع عنيد في الخير، ممسوح بالعناد الإلهيّ في عدم ضياع أحد. لذا فهو لا يترك أبوابه مفتوحة وحسب، بل ويخرج باحثًا عمن لا يُريد عبور الباب. على غرار أيّ مسيحيّ صالح، وكمثال لكلِّ مسيحيّ، هو دائم الخروج من ذاته. نقطة قلبه المركزيّة توجد خارج ذاته: إنّه شخص لا يركّز على ذاته، يركّز على يسوع. ليس منجذبًا بـ"أنا" ذاته، إنما بـ"أنت" الله، وبـ"نحن" البشر.

 

الكلمة الثانية: نضمّ. المسيح يحبّ خرافه ويعرفها، يبذل حياته من أجلها وما من خروف غريب بالنسبة إليه (يو 10، 11- 14). القطيع هو عائلته وحياته. هو ليس رئيسًا تخافُه خرافُه، إنّما الرَّاعي الذي يسير معها ويدعوها باسمها (يو 10، 3- 4). يرغب أيضًا أن يجمع الخراف التي ما زالت لا تقيم معه.

 

هكذا أيضًا كاهن المسيح: إنّه ممسوح للشعب، لا كي يختار مشاريعه الشَّخصيَّة، إنّما كي يكون قريبًا من الأشخاص الملموسين الذين أوكلهم الله إليه بواسطة الكنيسة. وما من أحد يُبعَد عن قلبه، وعن صلاته وعن بسمته. بنظرة مُحِبّة وقلبِ أب، يستقبل ويضمّ، وحين يجب أن يُصلح، يكون دومًا بهدف التقريب؛ لا يزدري بأحد، إنّما هو مستعد لأن يوسخ يديه. الرَّاعي الصَّالح لا يعرف القفازات. كخادمٍ للافخارستيا التي يحتفل بها ويعيشها، لا ينتظر تحيات ومجاملات الآخرين، إنما يمدّ أوّلًا يدَ المصافحة، رافضًا الشائعات والأحكام والسُّموم. يسمعُ المشاكلَ بصبر ويرافق خطوات الأشخاص، واهبًا صفح الله بتعاطفٍ سخيّ. لا يؤنّب من يخرج عن الطريق أو يضيعه، إنّما هو مستعد دائمًا لإعادة الشمل وتسوية النزاعات. إنه رجل يعرف الشمل.

 

نفرح. الله "فرحٌ" (لو 15، 5): فرحه ينبع من الصفح، ومن الحياة المُشرقة، ومن الابن الذي يتنشّق مجدّدا هواء المنزل. إنّ فرح يسوع الرَّاعي الصَّالح ليس فرحًا لذاته، إنّما فرح للآخرين ومع الآخرين، فرح المحبّة الحقيقيّ. هذا هو أيضًا فرح الكاهن. فهو يتحوّل بفعل الرَّحمة التي يهبها مجّانًا. يكتشف عزاء الله في الصلاة ويختبر أنّه ما من شيء أقوى من محبّته. لذا فهو هادئ في داخله، وسعيد بكونه "قناة" الرَّحمة، وبجعله الإنسان يتقرّب من قلب الله. والحزن ليس طبيعيّا بالنسبة إليه، إنما مؤقّتًا فقط؛ والقساوة غريبة عنه، لأنّه راعٍ حسب قلب الله الوديع.

 

أيّها الكهنة الأعزّاء، إنّنا نجد مجدّدا في الاحتفال الافخارستيّ كلّ يوم هويتَنا هذه كرعاة. ونستطيع في كلّ مرَّة أن نتبنّى هذه الكلمات: "هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم". فهذا هو معنى حياتنا، وهذه هي الكلمات التي، إلى حدّ ما، يمكننا أن نجدّد بها يوميّا وعود رسامتنا. إني أشكركم على الكثير من الـ "نعم" الخفيّة كلّ يوم، والتي يعرفها الرَّبّ وحده. إنّي أشكركم على "نعم" وهب حياتكم باتّحاد مع يسوع: هنا يكمن المصدر النقيّ لفرحنا. 

 

 

 

موقع الكرسي الرسولي.