رحّب شباب العالم بقداسة البابا فرنسيس في منتزه بونيا في كراكوفيا مساء اليوم الخميس احتفالاً باليوم العالمي الحادي والثلاثين للشباب 2016 في لقاء حمل عنوان "مدعوّون للقداسة".
وقد جال الحبر الأعظم بين الشباب وسط تصفيق حار وهتافات مُرحِّبة، وهم يلوِّحون بأعلام بلادهم وصور "شهود الرّحمة" من مختلف القارات: القدّيس منصور دي بول (أوروبا)، الطوباويّة الأم تريزا دي كالكوتا (آسيا)، القدّيسة ماريا ماكيلّوب (أستراليا وأوقيانيا)، القدّيسة جوزيبينا بخيتا (أفريقيا)، القدّيس دميان دي فووستير دي مولوكاي (أمريكا الشماليّة) والطوباويّة إيرما دولسيه (أمريكا الجنوبيّة).
وبعد كلمة رئيس أساقفة كراكوفيا الكاردينال ستانيسلاو دجيفيتش ألقى الأب الأقدس كلمة حيّا بها الشباب وشكرهم على شهادة الإيمان التي يقدمونها للعالم وقال أعزّائي الشباب وأخيرًا نلتقي! أشكركم على هذا الاستقبال الحارّ وفي أرض مولده أريد أن أشكر بشكل خاص القدّيس يوحنّا بولس الثاني الذي حلم بهذه اللقاءات وأعطاها دفعًا، ومن السّماء يرافقنا في رؤية العديد من الشباب المنتمين للشعوب وثقافات ولغات مختلفة يجمعهم هدف واحد: الاحتفال بيسوع الحيّ في وسطنا. وبقولنا إنّه حيّ نحن نجدّد رغبتنا في إتّباعه. فما من مناسبة أفضل لتجديد الصداقة مع يسوع إلّا من خلال تعزيز الصداقة فيما بينكم! وما من طريقة أفضل لتعزيز صداقتنا مع يسوع إلّا من خلال مقاسمتها مع الآخرين! وما من طريقة أفضل لاختبار فرح الإنجيل إلّا من خلال نقل "عدوى" البُشرى السّارة إلى العديد من الأوضاع الأليمة والصعبة!
يسوع هو الذي دعانا إلى هذا اليوم العالمي الحادي والثلاثين للشباب؛ ويسوع هو الذي يقول لنا: "طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرحَمون" (متى 5، 7). طوبى للذين يعرفون كيف يغفرون ويتحلّون بقلب شفوق ويعرفون أن يعطوا أفضل ما عندهم للآخرين. أعزّائي الشباب، خلال هذه الأيّام سترتدي بولندا حلّة العيد؛ وفي هذه الأيّام تريد بولندا أن تكون وجه الرّحمة الفتيّ على الدوام. من هذه الأرض معكم وبالاتحاد مع العديد من الشباب الذين لا يمكنهم أن يكونوا حاضرين هنا ولكنّهم يرافقوننا عبر وسائل الاتصالات العديدة، سنجعل معًا من هذا اليوم عيدًا يوبيليًا حقيقيًّا.
لقد تعلّمت خلال سنوات الأسقفيّة التي عشتها أنّه ما من شيء أجمل من التأمّل بالرّغبات والالتزام والشغف والطاقة التي من خلالها يعيش الشباب حياتهم. عندما يلمس يسوع قلب شاب أو شابة يصبحان قادرَين على القيام بأعمال عظيمة.
إنّها لعطيّة من السّماء أن نرى العديد منكم يسعون كي تكون الأمور مختلفة. إنّه لأمر جميل ويريح قلبي أن أراكم تفيضون بهذا الفرح. إنّ الكنيسة تنظر اليوم إليكم وتريد أن تتعلّم منكم لتُجدّد ثقتها برحمة الآب وهي لا تتوقّف أبدًا عن دعوتكم للمشاركة في ملكوته.
وإذ أعرف الشغف الذي من خلاله تقومون برسالتكم، أتجرَّأ على تكرار: الرَّحمة تتحلى بوجه فتيٍّ على الدوام، لأنَّ القلب الرَّحوم يتحلّى بالشّجاعة لترك الرفاهيّة؛ القلب الرَّحوم يعرف كيف يذهب للقاء الآخرين ويستطيع أن يعانق الجميع. القلب الرّحوم يعرف كيف يكون ملجأ لمن لا بيت له ويعرف كيف يخلق إطار البيت والعائلة لمن اضطّر للهجرة. القلب الرّحوم يعرف كيف يتقاسم الخبز مع الجائع، القلب الرّحوم ينفتح ليستقبل اللاجئ والمهاجر. وأن أقول رحمة معكم يعني أن نقول فرصة وغد والتزام وثقة وانفتاح واستقبال وشفقة وأحلام.
أريد أن أعترف لكم بشيء آخر تعلّمته خلال هذه السنوات. يؤلمني أن ألتقي شبابًا يبدون "متقاعدين" قبل وقتهم. يقلقني أن أرى شبابًا فقدوا عزيمتهم قبل أن تبدأ المباراة، واستسلموا قبل أن يبدأوا باللّعب. يسيرون بأوجه تعيسة كما ولو أنّ حياتهم لا قيمة لها. إنّهم شباب ضجرون ومملون. ورؤيتك لهؤلاء الشباب تجعلك تفكِّر أنّهم يخسرون أجمل سنوات حياتهم وطاقاتهم بالجري وراء أوهام زائفة تسلبكم أفضل ما لديكم.
لذلك أيّها الأصدقاء الأعزّاء اجتمعنا لنساعد بعضنا البعض لأننا لا نريد أن نُسلب أفضل ما لدينا ولا نريد أن نسمح بأن يسلبوننا طاقاتنا وفرحنا وأحلامنا بواسطة أوهام زائفة. أسألكم أيّها الأصدقاء الأعزّاء هل تريدون لحياتكم ذاك "الاضطراب" الذي يقصيكم ويُبعدكم أم أنّكم تريدون أن تشعروا بالقوّة التي تجعلكم أحياء؟ هناك جواب واحد كي تشعروا بهذه القوّة المُجدّدة: إنّه شخص وهو حيّ ويُدعى يسوع المسيح. يسوع المسيح هو الذي يعطي شغفًا حقيقيًّا للحياة، يسوع المسيح هو الذي يحملنا لكي لا نكتفي بالقليل ونعطي أفضل ما عندنا؛ يسوع المسيح هو الذي يُسائلنا ويدعونا ويساعدنا لننهض في كلّ مرّة نشعر فيها بالاستسلام.
لقد سمعنا في إنجيل لوقا (10/ 38 -42) أن يسوع وفيما كان متوجّهًا إلى أورشليم دخل بيتًا – بيت مرتا ومريم ولعازر – ليقيم معهم. إن الانشغالات الكثيرة تجعلنا مثل مرتا: نشيطين منشغلين نركض من مكان إلى آخر... ولكن غالبًا ما نكون أيضًا مثل مريم: أمام منظر جميل أو فيديو يرسله لنا صديق ما على الهاتف المحمول فنتوقف للتفكير والإصغاء.
خلال أيّام اليوم العالمي للشباب هذه يريد يسوع أن يدخل بيتنا؛ سيرى اهتماماتنا وانشغالاتنا كما حصل مع مرتا... ولكنّه سينتظر كي نصغي إليه على مثال مريم: فلنتحلّى بشجاعة الاستسلام له وسط جميع انشغالاتنا؛ ولتكن أيّام ليسوع، مكرّسة لنصغي إلى بعضنا البعض ونقبله في الأشخاص الذين نتقاسم معهم البيت والطريق والمجموعة والمدرسة.
إنّ الذي يقبل يسوع يتعلّم المحبّة على مثاله. لذلك هو يطلب منّا إن كنّا نريد أن نعيش الحياة بملئها: أتريد أن تعيش الحياة بملئها؟ إسمح لنفسك إذًا بأن تتأثّر! لكي تنبت السّعادة وتزهر الرّحمة: هذا هو جوابه وهذه هي دعوته وهذا هو التحدي والمغامرة اللذين يقدّمهما: الرّحمة! الرّحمة تملك على الدوام وجهًا فتيًّا؛ كوجه مريم في بيت عنيا الجالسة عند أقدام يسوع كتلميذة تحبّ أن تصغي إليه لأنّها تعرف أنّها تجد فيه السّلام. كوجه مريم في الناصرة، التي انطلقت بالـ "نعم" التي قالتها في مغامرة الرّحمة والتي ستطوِّبها جميع الأجيال وسيدعوها الجميع "أمّ الرَّحمة".
لنطلب إذًا جميعنا من الرّبّ: أطلقنا في مغامرة الرّحمة! أطلقنا في مغامرة بناء الجسور وتحطيم الجدران؛ أطلقنا في مغامرة مساعدة الفقير والوحيد والمتروك والذي لا يجد معنى لحياته. إدفعنا على مثال مريم في بيت عنيا لنصغي إلى الذين لا نفهمهم والقادمين من ثقافات وشعوب أخرى، حتى تلك التي نخاف منها لأنّنا نعتقد أنّهم بإمكانهم أن يؤذوننا. واجعلنا نوجّه أنظارنا، على مثال مريم مع أليصابات، نحو مُسنّينا لنتعلّم من حكمتهم.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول ها نحن يا ربّ! أرسلنا لنتقاسم محبّتك الرَّحيمة. نريد أن نستقبلك في هذا اليوم العالميّ للشباب، ونريد أن نؤكّد أن الحياة تُعاش بملئها عندما تُعاش انطلاقـًا من الرَّحمة وبأنّ هذا هو النصيب الأفضل الذي لن يُنتزع منّا أبدًا.
إذاعة الفاتيكان.