تحت عنوان "سرّ الرَّحمة الإلهيّة" ألقى رئيس المؤتمرات الرَّسوليّة العالميّة للرَّحمة الكاردينال كريستوف شونبورن مُداخلة افتتح بها المؤتمر الرّسوليّ الأوروبي للرَّحمة الذي يعقد في كنيسة القدِّيس أندريا دي لافاليه في روما من الحادي والثلاثين من آذار مارس الجاري وحتّى الرابع من نيسان أبريل المقبل.
قال الكاردينال كريستوف شونبورن الرَّحمة بلا شكّ هي محور إعلان يسوع وميزة شخصه، لكن على ماذا تقوم؟ وكيف يُعبّر عنها؟ في يسوع اقتربت منّا رحمة الله و"افتقدتنا"، كما يعلن زكريّا في نشيده بعد ولادة ابنه يوحنّا: "تِلكَ رَحمَةٌ مِن حَنانِ إِلهِنا بِها افتَقَدَنا الشَّارِقُ مِنَ العُلى" (لوقا 1، 78).
من خلال يسوع تصل إلينا أحشاء رحمة الله، وبحسب مفهوم العهد القديم الرَّحمة تنبع من الأحشاء وتُعرف بكلمتين: "rachamim" و"hesed" وبالتالي فهي عميقة كمحبّة الأمّ لابنها، لا بل أعمق كما نقرأ في سفر أشعيا: "أتَنسى المرأةُ رَضيعَها فلا ترحَمَ ثمرَةَ بَطنِها؟ لكن ولو أنَّها نَسيَت، فأنا لا أنساك" (أشعيا 49، 15).
إنّ رسالة يسوع هي التّعبير عن رحمة الله الوالديّة هذه؛ فمريم تتغنّى بها في نشيدها: "ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقونَه" (لوقا 1، 50). وهنا تشير كلمة رحمة إلى الكلمتين المستعملتين في العهد القديم معًا. يكتب البابا يوحنّا بولس الثاني في رسالته "الغنيّ بالمراحم" واصفـًا هذا الرّباط ويقول: "وإذا نشأت هذه المشاعر بين شخصين فلا يكونان فقط متعاطفين مع بعضهما البعض وإنّما أيضًا أمينين في سبيل التزام داخليّ، بسبب أمانتهما لأنفسهما".
وبالتّالي فهاتان الكلمتان "rachamim" و"hesed" تُشيران معًا إلى رحمة الله: الأولى تسلّط الضّوء على الميزات الرجوليّة للأمانة والثانية إلى الحبّ الوالدي لأنَّ الرَّحمة الإلهيَّة هي تكرّس كامل وعميق يطال الفرد ويلمسه بكرامته بشكل مُلزم وأمين وشخصيّ. وبالتالي فإنّ يسوع، بمعنى آخر، هو تجسيد رحمة الله، ومن خلاله يتوجّه الله إلى كلِّ إنسان بشكلٍ فرديّ. فهو يظهر لي الرَّحمة ومن خلال المسيح أُصبح موضوع محبّة الله بشكلٍ شخصيّ وفريد.
ولكن هل رحمة يسوع هي موقف بشريّ طبيعيّ؟ هل هي ردّة فعل عفويّة ينبغي أن يشعر بها كلّ إنسان إزاء ألم حقيقيّ؟ وهل الرّحمة هي بشريّة أم إنّها مسيحيّة فقط؟
إنّ رحمة يسوع نحو المعوزين تجد أساسها في الإنسان وهو أساس عاطفيّ، ولكنّها ليست عاطفيّة فقط وإنّما هي بالتأكيد أكثر من ذلك. فيسوع يشعر بالشفقة لأنّه إنسان، والشفقة تعني الشّعور بألم الآخر ورؤية الآخر كنفسي وقبوله كقريب، ولكن رحمة يسوع تتخطـّى هذه المعايير الطبيعيّة، وبالتّالي ينبغي على الرّحمة أن تكون على مثال رحمة الله وهذا الأمر لا يمكننا بلوغه بواسطة قوانا الشخصيّة وحسب لأنّنا بحاجة لمساعدة الله وهذا الأمر يبدو جليًّا عندما يُطلب منّا أن نكون رحماء تُجاه أعدائنا على سبيل المثال.
وفي تأمّلنا حول رحمة يسوع تظهر لنا أكثر سريّة وتطلُّبًا وأحيانًا أيضًا صعبة الفهم، ونتساءل: هل كان يسوع رحيمًا مع بعض الأفراد والأشخاص أو مع الجميع؟ ألم يُضطرّ كإنسانٍ لأن يختار؟ هذا الأمر أعلنه يسوع بوضوح عندما تكلّم في هيكل الناصرة فثار ثائِرُ جَميعِ الَّذينَ في المَجمَع عِندَ سَماعِهِم لكلامه وأرادوا أن يقتلوه، إذ قال: "كانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبرأ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ" (لوقا 4، 27).
إذًا يسوع لم يشفي جميع بُرص زمانه، ألم يكُن إذًا يُشفق على الجميع؟ هل كان يسوع يمنح شفقته بشكلٍ عشوائي؟ أم أنّ الرَّحمة مرتبطة بالعدالة؟ صحيح أنّ يسوع لم يشفِ جميع البرص في زمانه ولكنه لم يرفض أحدًا من الأشخاص الذين توجّهوا إليه لأنّه كان هناك غيرهم. فالرَّحمة هي أمر ملموس وهي تطال الجميع وإنّما بشكلٍ خاصّ الشّخص الموجود أمامي الآن والذي يحتاج لمساعدتي، وهكذا نرى يسوع أيضًا في لقائه مع كلّ شخص بمفرده: فهو متنبّه وحاضر ويكرّس كلّ اهتمامه للشّخص الذي يتوجّه إليه. وفي كلِّ مرّة يُحقـِّقُ ما يعلّمه في مثل الخروف الضّائع: يترك التسعة والتسعين ليذهب بحثًا عن الخروف الضّال.
ولكننا نعرف أيضًا أوضاعًا امتدّت فيها رحمة يسوع لتشمل الجميع، وهناك جملة تتكرّر في الأناجيل "فأشفق على الجمع". فاهتمام يسوع بالجموع الذين يتبعونه هو أيضًا اهتمامٌ ملموس: "أُشفِقُ على هذا الجَمع، فَإِنَّهُم مُنذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يُلازِمونَني، ولَيسَ عِندَهم ما يَأكُلون. وإِن صَرَفتُهم إِلى بَيوتِهم صائمين، خارَت قُواهم في الطَّريق، ومِنهُم مَن جاءَ مِن مَكانٍ بَعيد" (مرقس 8، 2- 3).
لكن يسوع لا يوفّر لهم الخبز الماديّ وحسب بل يقول لنا الإنجيل "وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة"، لكن ماذا علّمهم يسوع طوال ذلك اليوم؟ "ما تَكلَّمَ إِنسانٌ قَطّ مِثلَ هذا الكَلام" (يوحنا 7، 46) قال الحرّاس لرؤساء الكهنة في أورشليم. إنّ كلمة يسوع التي نقلتها لنا الأناجيل تكفي كـ "خبز الكلمة" لكنيسة كلّ زمن، وأن نسمح لكلمته بأن تطبعنا يعني أن نسمح أيضًا لرحمته بأن تطبعنا، لأنّ كلماته تأتي من ينبوع كلّ رحمة، من قلب الآب لأنّه يقول فقط ما ناله من الآب: "الكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 14، 24).
كلّ يوم ترفع الكنيسة في صلاة الصباح الأولى تضرّعها: "يا ربِّ افتَح شَفَتّيَّ؛ ليُخبرَ فمي بتسبحتِكَ" ويتبعه المزمور الخامس والتسعين: "هَلُمّوا نُهَلِّلُ لِلرَّبِّ..." وفي وسط المزمور نجد آية مؤثّرة جدًا يمكنها أن تصبح صلاة حميمة للنهار بكامله: "َاليومَ إِذا سَمِعتُم صَوتَهُ فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم كما في مَريبَة وكما في يَوم مَسَّة في البَرِّيَّة" (مز 95، 7- 8).
إنّ قساوة القلب هي نقيض الرَّحمة. كم ينبغي علينا أن نصلّي لكي لا يصبح قلبنا قاسيًا ومن حجر! إنّ قساوة القلب هي الابتعاد عن الله وفقدان الشّعور تجاه القريب ومن تبعاتها يفقد المرء إنسانيّته. لكن يسوع قد أتى كما أعلن الأنبياء ليعطينا قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا وينزِع مِنا قلبَ الحجرِ ويُعطينا قلبًا مِن لَحمِ. لكن ما هو سرّ قساوة القلب المُظلم هذا؟ حتى تلاميذ يسوع معرّضون له. والأناجيل تخبرنا بوضوح عن ضعف تلاميذ يسوع وعدم تفهُّمهم للمعلّم وقساوة قلوبهم.
قد نتساءل ولكن كيف يمكن لقساوة كهذه أن تنمو بالقرب من المقدّس؟ هل يُعقل أن تسبِّب نار حضور الله رفضًا وقساوة قلب؟ نجد بشريًّا ظاهرة الطيبة التي تُسبب الشرّ أو الطيبة التي توقظ الحقد وهذا ما يسميه القدّيس بولس "سِرَّ الإِلحادِ" (2 تسالونيكي 2، 7). إنّه كما ولو أنّ الشرّ يشعر بأنّه مهدّد من قبل الخير. كما ونجد أيضًا ظاهرة قساوة القلوب بالقرب من المقدّس، وهي جزء من الأشياء الأكثر إيلامًا للكنيسة والتي تهدّدنا نحن الكهنة "خدّام الكلّي القداسة"؛ فهي تندسّ بصمت بواسطة الرتابة والرفاهيّة وتجعلنا ننسى حبّنا الأوّل.
هل هناك أيضًا رحمة لنا نحن الخطأة؟ بالطبع وبشكل لا ينضب ولكنّها تتطلّب شرطين: الحقيقة والتوبة. وأحد الأمثلة لهذه الرّحمة هو لقاء يسوع بالمرأة السّامريّة عند بئر يعقوب. فبدون الحقيقة لا يمكننا أن ننال الرَّحمة.
لكن ما هو الأسلوب الأصحّ لقول الحقيقة بدون أن نجرح الرّحمة؟ وأين يصبح إخفاء الحقيقة رحمة كاذبة؟ بعد جواب المرأة: "ليس لي زوج"، قال لها يسوع: "أَصَبتِ إذ قُلتِ: لَيسَ لي زَوج. فَقَد كانَ لَكِ خَمسَةُ أَزواج، والَّذي عِندَكِ الآنَ لَيسَ بِزَوجِكِ، لقَد صَدَقتِ في ذلكَ"؛ ظهر يسوع كالمسيح المُزمع أن يأتي ويخبرنا الإنجيليّ: "تَركَتِ المَرأَةُ جَرَّتَها، وذَهبَت إِلى المَدينة فقالَت لِلنَّاس: "هَلُمُّوا فَانْظُروا رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ. أَتُراهُ المَسيح ؟" فخَرَجوا مِنَ المَدينةِ وساروا إِليه" (يوحنا 4، 28- 30).
كم هي فعّالة الحقيقة التي تجرَّأ يسوع على كشفها لهذه المرأة! هي التي كانت منبوذة وكان ينبغي عليها أن تذهب لتستقي عند الظهر، وجدت نفسها وسط الناس مجدّدًا وما كان يفصلها عنهم قادها الآن مجدّدًا بينهم، لأنّ الحقيقة تخلق التواصل مجدّدًا.
إذ قال لها يسوع حقيقة مأساتها لم يحكم عليها بل شرح لها بواسطة رحمته أنّها كانت تبحث في علاقاتها عن شيء يختلف تمامًا عمّا كانت تجده. هذه السّامريّة كانت امرأة لرجال كثيرين ولم يحبّها أحد منهم حقـًّا، لكنّها وجدت في يسوع ذلك الرّجل الذي لا يريد شيئًا منها والذي لا يحكم عليها ولكنّه لا يخفي عنها الحقيقة التي تحرّرها، فأصبحت الخاطئة مرسلة وخرج أهل المدينة جميعهم إلى يسوع، وبعد أن التقوه قالوا لها: "لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقـًّا" (يوحنا 4، 42). ما أكبر نتائج الحقيقة عندما تكون تعبيرًا عن الرَّحمة!
إنّ سرّ هذه القوّة هو الارتداد أي انفتاح القلب وبالتالي نهاية قساوته. وهذا ما يصفه كتاب أعمال الرّسل إذ يكتب: "فلَمَّا سَمِعوا ذلكَ الكَلام، تَفطَّرَت قُلوبُهم" (أع 2، 37). لكن ماذا يجب أن يحصل لينفتح القلب على الرَّحمة؟ يجيب يسوع على هذا السؤال من خلال مثل الكرّامين القتلة الذي يشرح من خلاله رسالته ويوضح هويّته بأنّه ابن الله الحبيب.
لقد فهم المسيحيّون هذا النصّ على الشّكل التّالي: اليهود قتلوا يسوع ولذلك فقدوا الميراث الذي أُعطي من ثمَّ للوثنيّين. لكن ليس هذا ما فعله يسوع، لأنّه بذل حياته أيضًا في سبيل الذين قتلوه وقبل الموت من أجلهم.
فالرّحمة تبلغ ملأها حيث تكون القلوب القاسية، ووحدها الرّحمة، التي تبدو ظاهريًّا ضعيفة، بإمكانها أن تذيب القلوب المتحجِّرة. فالله أراد أن يتغلّب على نقص رحمتنا بفيض رحمته تجاهنا نحن سجناء قساوة قلوبنا. وبالتالي فرحمة الله ليست أبدًا نتيجة لاستعداد قلوبنا على الانفتاح وإنّما سبب انفتاحها، فمن خلال إجابتنا على هذه العطيّة نصبح نحن أيضًا بدورنا رحماء بعد أن كنّا موضوع رحمته.
إذاعة الفاتيكان.