بمناسبة الإحتفال بخميس الأسرار وجّه صاحب الغبطة مار بشاره بطرس الراعي بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق رسالته الخامسة لجميع الأساقفة والكهنة تحت عنوان "لقد تركتُ لكم قدوةً"، ومما جاء فيها: أيّها الإخوة في الكهنوت الأحبّاء، خميس الأسرار هو عيد سرّ كهنوتنا النابع من سرّ القربان، وفي هذا العيد، تجدّدون حول أساقفتكم عهود الكهنوت، التي قطعتموها على أنفسكم، يوم رسامتكم المقدّسة، مع المسيح الكاهن الأزلي، وراعي الرعاة، الذي دعانا، واتمَنَنا على مواصلة رسالة الفداء الخلاصيّة، باسمه وبشخصه.
إن كهنوتَنا سعي دائم إلى الاقتداء بالمسيح الكاهن الذي نحدّد هويته الكهنوتية بثلاث صفات: أولاً الطاعة لأبيه، فوق كلّ اعتبار شخصي آخر. فكان يردّد:"أنا لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني"، ويؤكّد: "طعامي أن أصنع مشيئة الآب الذي أرسلني"، ونحن، إخوتي الكهنة، دُعينا لهذه الطاعة. ثانيًا تابع البطريرك الراعي يقول بذل الذات في سبيل الأخوة.
فعندما كان الرسل الإثنا عشر، المعدّون ليكونوا كهنة العهد الجديد، يرغبون في مكاسب شخصية عالمية بإتباعهم ليسوع، قال لهم: "من أراد أن يكون عظيمًا فليكن لكم خادمًا. ومن أراد أن يكون الأوّل فيكم، فليكن لكم عبدًا. عندما كُرّسنا بالميرون، نحن الكهنة، وحلّ علينا الروح القدس، صوّرنا الروح في كياننا الداخلي على صورة المسيح خدامًا له في الكنيسة من أجل جميع الناس. لم يجعلنا أسيادًا نبحث عن راحتنا ومغانمنا، كبيرة كانت أم صغيرة، بل جعلنا خدامًا متصفين بالأمانة والحكمة، وبروح التجرّد، وسخاء بذل الذات.
ثالثاً التواضع والوداعة، لا يجد الكاهن سلامه الداخلي، إلاّ إذا اتّصف بميزتَي الربّ يسوع، التواضع والوداعة. وقد دعانا، نحن الكهنة، إلى مدرسته لنتعلّمهما ونكتسبهما: "تعالوا إليّ، وتعلمّوا مني: إني وديعٌ ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم". تعلّمنا القديستان تريزيا الكبيرة وتريز الصغيرة أن نعتبر ذاتنا أضعف من جميع الناس؛ وأن هذا الاعتبار نعمة خاصة من الله.
كم نحن بحاجة إلى روحانية كهنوتية تنعش نفوسنا، وتسمو بها إلى قمم الروح. فما أحقر ربط خدمتنا بماديات تعطى لنا لقاءها! وما أحقر التوقّف عن إدائها إذا لم تقابل بمال. فما معنى "مجّانًا أخذُتم، فمجّانًا أعطوا". ألم نختبر أن الله أكثر سخاء منا في عطاءاته؟
استودعنا المسيح الكاهن الأسمى خدمة رسالته الخلاصية وترك لنا قدوة في إدائها: "فكان يطوف جميع القرى والمدن، يعلّم في المجامع، ويعلن إنجيل الملكوت، ويشفي الناس من كلّ مرض وداء. يريدنا الربّ يسوع في حالة إرسال دائم في أبرشياتنا ورعايانا وكنيستنا. شعبنا بحاجة إلينا: ننقل إليهم إنجيل يسوع، نشهد لحنانه ومشاعره الإنسانية، نجعله حاضرًا في كلّ مكان، نحمله إلى بيوتهم، نعكس وجهه بينهم. وكنيستنا بحاجة إلى سخاء كهنتنا، الأبرشيّين والرهبان، لتأمين الخدمتين: خدمة الجذور في لبنان والمشرق، وخدمة الأغصان المنتشرة في جهات الأرض الأربع.
يذكّرنا، إخوتي الكهنة، يوبيل سنة الرحمة إننا صُوّرنا في كياننا الداخلي، بفعل الروح القدس يوم رسامتنا، رحومين على مثال يسوع الرحوم. فكما أن يسوع المسيح هو وجه رحمة الآب، الكاهن هو وجه رحمة المسيح، وجه الحبّ والحنان والشفقة الذي أظهره يسوع في كلّ لقاء ومناسبة، ودعانا لنغفر لمن أساء إلينا سبعين مرة سبع مرات، ونتحنّن بعضنا على بعض، كما يتحنّن الله علينا. وعلّمنا أن الغفران هو الوسيلة الموضوعة بين أيدينا لنصل إلى سلام القلب.
وختم البطريرك مار بشارة بطرس الراعي رسالته بالقول إخوتي الكهنة، لقد فتح الفادي الإلهي أمامنا الطريق الفصحي المقدّس: عبر بالموت والقيامة من عالمنا إلى الآب ، وبهذا العبور نقل معه البشرية جمعاء من عتيق الخطيئة إلى جديد النعمة، من حالة الإنسان القديم أسير الخطيئة، إلى حالة الإنسان الجديد المحرَّر بالنعمة. وإننا نشكر الله معكم لأنه يُحصِّننا بنعمته، ويحمينا بيده التي وضعها علينا في الرسامة الكهنوتية، وبرحمته يحافظ علينا، فلا نخرج من دائرة يده الرحومة التي تحتوينا.
موقع بكركي.