ترأس قداسة البابا فرنسيس عصر أمس الخميس في بازيليك القدّيس بطرس أمسية صلاة على نيّة الذين يحتاجون للتعزية، بدأت الأمسية ببعض شهادات الحياة تخلّلتها قراءات من الكتاب المقدّس وبعد قراءة الإنجيل ألقى الأب الأقدس كلمة استهلّها بالقول:
بعد شهادات الحياة التي سمعناها وفي ضوء كلمة الرّبّ التي تنير حالة الألم التي نعيشها نطلب أوّلاً حضور الرّوح القدس لكي يحلَّ في وسطنا، وينير أذهاننا لنجد الكلمات المناسبة القادرة على منح التعزية، وليفتح قلوبنا لنتيقنّ لحضور الله الذي لا يتركنا أبدًا عند المحن.
في أوقات الحزن والألم والمرض، في أسى الاضطهاد وفي ألم الحداد يبحث كلّ منّا عن كلمة تعزية، نشعر بحاجة كبيرة لوجود شخص بقربنا، ونختبر معنى أن يكون المرء مشوّشًا وضائعًا. تمتلئ الأذهان بالأسئلة التي لا تجد لها أجوبة.
فالعقل وحده لا يقدر أن يفهم الألم الذي نشعر به ولا يقدر أن يعطينا الأجوبة التي ننتظرها. في أوقات كهذه نحن بحاجة ماسّة لبصيرة القلب لأنّها وحدها بإمكانها أن تجعلنا نفهم السرّ الذي يحيط بوحدتنا. كم من الحزن نرى على الوجوه التي نلتقي بها، وكم من الدموع تُذرف في كل لحظة في العالم، كلّ واحدة تختلف عن الأخرى ولكنّها تشكّل معًا محيط يأس يطلب الشّفقة والرّأفة والعزاء.
إنّ الدّموع الأشدّ مرارة هي تلك التي يُسببها الشرّ البشريّ: دموع من فَقد شخصًا عزيزًا بطريقة وحشيّة، دموع الأجداد والأمّهات والآباء والأطفال... نحن بحاجة للرّحمة والعزاء اللذين يأتيان من الرَّبّ. جميعنا بحاجة لهما، هذا هو ضعفنا وإنّما قوّتنا أيضًا: أن نطلب تعزية الله الذي يأتي بحنانه ليمسح الدموع عن وجوهنا.
في ألمنا هذا نحن لسنا وحدنا أبدًا. فيسوع أيضًا يعرف معنى البكاء بسبب فقدان شخص عزيز. إنّها من أكثر الصفحات المؤثرة في الإنجيل: عندما رأى يسوع مريم تبكي موت أخاها لعازر، لم يتمكّن هو أيضًا من حبس دموعه؛ و"جاشَ صَدرُه وَاضطَرَبَت نَفسُه" (راجع يوحنا 11، 33- 35). إن دموع يسوع قد بلبلت العديد من اللاهوتيِّين عبر العصور ولكنّها غسلت العديد من النفوس وبلسَمَت العديد من الجراح.
فيسوع أيضًا قد اختبر في شخصه خوف الألم والموت، خيبة الأمل واليأس بسبب خيانة يهوذا وبطرس، والألم بسبب موت صديقه لعازر. إنّ يسوع لا يترك الذين يُحبّهم؛ وإن كان الله قد بكى، فيمكنني أن أبكي أنا أيضًا عالمًا أنّه يفهمني. دموع يسوع هي الترياق ضدّ اللامبالاة إزاء ألم إخوتي؛ وتلك الدموع تعلّّمنا أن نجعل ألم الآخرين ألمنا ونشارك الذين يعيشون أوضاعًا أليمة ألمهم وحزنهم.
في لحظات الارتباك والتأثر والبكاء ترتفع من قلب المسيح الصّلاة إلى الآب. الصّلاة هي الدّواء الحقيقيّ لألمنا؛ بالصّلاة يمكننا نحن أيضًا أن نشعر بحضور الله بقربنا. إنّ حنان نظرته يعزّينا، وقوّة كلماته تعضدنا وتزرع فينا الرَّجاء.
عند قبر لعازر رفع يسوع صلاته قائلاً: "شُكراً لَكَ، يا أَبَتِ على أَنَّكَ استَجَبتَ لي وقَد عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَداً" (يوحنا 11، 41- 42). نحن بحاجة أيضًا لهذا اليقين: الآب يسمعنا ويأتي لمعونتنا.
إنّ محبّة الله التي أُفيضت في قلوبنا تجعلنا نقول أنّه عندما نُحبّ لا يمكن لأحد أو لأي شيء أن يُبعدنا عن الأشخاص الذين نحبّهم؛ وهذا ما تذكّرنا به كلمات بولس الرّسول: "مَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟... ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيناً، بِالَّذي أَحَبَّنا.
وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا" (روما 8، 35. 37- 39).
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول إنّ قوّة المحبّة تحوّل الألم إلى يقين بانتصار المسيح وانتصارنا معه، ورجاء أنّنا سنكون معه من جديد وسنتأمّل إلى الأبد وجه الثالوث الأقدس الينبوع الأزليّ للحياة والحبّ.
إذاعة الفاتيكان.