"ابنُ الإنسان لم يأتِ ليُخدم، بل ليخدم
ويبذل نفسه فدىً عن كثيرين" (مر 10: 45)
1. بهذه الكلمة كشفَ الربّ يسوع هويّته، دعوةً ورسالة: فلقد اختاره الآب، وأرسله إلى العالم، ليَخدُم خلاص الجنس البشريّ، باذلًا نفسه فداءً عن الكثيرين. هكذا أوضح معنى "شراب كأسه" و"الإعتماد بمعموديّته" اللّذين دعا إليهما يعقوب ويوحنّا، بدلًا من السّعي إلى أمكنة الشرف. فبات الربّ حاضرًا في سرّ الإفخارستيّا حيث، كخادمٍ للخلاص والفداء، يقرّب ذاته قربانًا للآب: ذبيحة تكفير عن خطايا البشر، ووليمةً روحيّةً للمؤمنين والمؤمنات، يقدّم لهم فيها الحياة الجديدة على مائدتـَي خبز الكلمة، وجسده ودمه.
2. بهذه الرّوحانيّة، أسّس المرحوم المونسنيور إميل جعاره، منذ خمسين سنة، "جمعيّة راهبات القربان الأقدس المرسلات" في مدرسة عين ورقة-غوسطا العزيزة، ببركة المثلّث الرّحمة البطريرك الكردينال بولس بطرس المعوشي. وها هي تختتم اليوم يوبيلها الذهبي. فيُسعدنا أن نقيم معها احتفال الختام هذا، ذبيحةَ شكرٍ لله على نِعَم اليوبيل التي أُفيضَت، طيلة السنة اليوبيليّة، على الجمعيّة وأعضائها، وعلى مؤسّساتها المتنوّعة في لبنان وخارجه، وعلى العاملين فيها، وعلى الذين واللواتي ينعمون من ثمار الخدمة فيها. ونقدّمها ذبيحةَ استلهام لأنوار المحبّة القربانيّة، وشعار الجمعيّة المستمدّ من سرِّ القربان: "شعاع وإشعاع"، فيكون ختام اليوبيل الخمسيني إنطلاقة متجدّدة وفقًا للموهبة الخاصّة بالجمعيّة.
فهي، من شعاع محبّة المسيح في سرّ القربان، تكتنز المحبّة في قلوب الرّاهبات، وتشعّ بها أفعالًا ورسالة ومبادرات في الخدمة المتنوّعة، وفقًا لنداءات الرّوح القدس المتجدّدة، وتؤلّف عائلة قربانيّة مع كلّ الذين واللواتي لهم شركة فيها عبر مؤسّساتها ورسالاتها. بهذه الأمنيات نهنّئ الجمعيّة بثمار اليوبيل الوفيرة، ونحيّي الرئيسة العامّة الأمّ منى بجّاني ومجلس المشيرات وسائر الرّاهبات، وكلّ "العائلة القربانيّة".
3. لقد شاء الأب المؤسّس والعناية الإلهيّة أن يتزامن تأسيس الجمعيّة القربانيّة مع عيد إرتفاع الصّليب المقدّس، للدلالة أنّ "الموهبة الخاصّة بالجمعيّة"، التي تكوّن هويّتها ورسالتها، إنّما هي المحبّة المتجسّدة في التضحية والبذل وهبة الذات، عملًا بكلمة الرّبّ يسوع: "ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه" (يو15: 13).
فاليوبيل الخمسيني كان وقفة وجدانيّة عادت بها الجمعيّة إلى نقطة الإنطلاق، إلى الجذور، لكي تستعيد إندفاع اليوم الأوّل، وتصوّب الواقع الحاضر، حيث تدعو الحاجة، وتفتح آفاق المستقبل، وفقًا لنداءات الرّوح؛ وكان اليوبيل، في الوقت عينه، مشاهدة لعمل الرّوح في الجمعيّة، ولما حقّق الله فيها من عظائمه ما لم يخطر على البال يومًا في مسيرة الجمعيّة التاريخيّة.
4. فما أجمل الصّعود إلى شراع الرّوح في حياتنا المسيحيّة والرّهبانيّة والكهنوتيّة، حيث "شرابنا كأس المسيح"، و"اعتمادنا معموديّته" من الماء والرّوح. فبهما، أعني بالمعموديّة والقربان، نصبح جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة، وهو كرأس لهذا الجسد يحقّق من خلالنا، بفعل الرّوح القدس، تاريخه الخلاصيّ بكلّ ما ينطوي عليه من عظائم وأسرار خفيّة تنكشف يومًا بعد يوم. لقد دعانا، كلّ واحد منّا، مثلما دعا الأب المؤسّس إميل جعاره وأمثاله، كلًّا بدوره وبموهبته، لأن نكون معاونين لله في إتمام إرادته، وبنيان ملكوته بكلّ غنى مكنوناته التي لا تنضب.
5. هذا التّعاون بين الله والإنسان ليس مقتصرًا على الشّأن الدّيني والكنيسة، بل مطلوب من كلّ إنسان في الحياة الإجتماعيّة والوطنيّة. ومطلوب على الأخصّ من الجماعة السياسيّة، المدعوّة لخدمة الشأن العامّ. فليعرفْ من يُكرّس نفسه للعمل السّياسي أنّه مدعو ليبحث عن إرادة الله في رعاية شعبه، ويخرج دومًا من ذاته، ومن أسر مصالحه والمغريات.
كم نتوق في لبنان إلى مسؤولين سياسيّين يحملون همَّ الوطن، دولة ومؤسّسات، بل يحملون همّ الشّعب اللبنانيّ الذي بات يعيش بأكثر من ثلثه في حالة حرمان وفقر واستجداء مذلّ لِما هو حقّه في العمل ولقمة العيش وتأمين المستوى المطلوب من العلم والتربية لأولاده، وفي السّكن والإستقرار الغذائيّ والصحّي والأمني.
6. إنّنا نوجّه إليهم النداء منكم، من هذا المقرّ التّاريخي ليُدركوا أنّ السّلطة السياسيّة تنبع من النظام الطبيعي الذي وضعه الله ليعيش الناس والشّعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعَوا شؤون مدينة الأرض، وينعموا بالخير والعدل. ولذا، كشف الربّ يسوع في إنجيل اليوم، وبيَّن في نهجه وتعليمه أنّ السّلطةَ خدمةٌ وبذلُ الذات في سبيل الجميع، وأنّها تفقد جوهرها ومبرّر وجودها إذا أضحت تسلّطًا أو مجرّد سيادة على الشّعب من دون الإلتزام بخدمة شؤونه (مر 10: 45)، وبتأمين الخير العامّ الذي يوجب عليهم توفير مجمل أوضاع الحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة والتشريعيّة والإداريّة والثقافيّة، التي تمكّن المواطنين من تحقيق ذواتهم بشكلٍ أفضل (راجع شرعة العمل السّياسي، صفحة 5 و6).
7. إنّ جمعيّة راهبات القربان الأقدس المرسلات، تنطلق من سرّ المحبّة القربانيّة: لخدمة الفتيات والفتيان في تربيتهم وإعداد مستقبل أفضل وواثق لهم؛ ولخدمة المسنِّين والمسنَّات في عيش شيخوخة مكرّمة تحظى بمعناها وقيمتها كشهادة للإيمان والصّلاة وعناية الله؛ وللخدمة الراعويّة إلى جانب الكهنة من أجل تعزيز الحياة الروحيّة في الرعايا ولدى المؤمنين والمؤمنات.
ومعها ومعكم نرفع نشيد الشّكر والتسبيح للآب والإبن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.