إنّ حضور الله في حياتنا سرّ رائع وعجيب، ولا يُمكن أن نتحدّث عنه سوى بالصّور التي تحاول أن تقرّب لفهم الإنسان حقيقة حياته وسُكنى الله فيه. ومهما يكن لا يُمكن الإحاطة بهذا السرّ، امتلاكه أو إدراكه، لأنّه رحيق حياة يتدفّق فينا برقّة ولطف، وفي الوقت نفسه بتصميم لا يعرف التراجع ولا التخاذل. ولذا فبالأمثال يكلّمنا يسوع عن علاقتنا بالله ويكشف لنا عن سرّ وجوده في داخلنا.
يتحدّث يسوع عن كنزٍ وجده رجل في حقل، ففرح للغاية وذهب وباع جميع ما يملك واشترى ذلك الحقل (متى 13: 44-52). لا تكمن قيمة الحقل هذا في نوعيّة الأرض أو في إنتاجها الوفير من الثمار والحبوب، ولا في موقعه بين الحقول أو تمييزه وسط الأراضي من حوله.
إكتشف الرَّجل قيمة الحقل حين وجد بالصدفة الكنز المدفون فيه، فأحبّ الحقل ووضع فيه كلّ ما يملك. إنّ حياتنا تشبه هذا الحقل، فمهما بلغت من علمٍ وغنى ومركز نظلّ نشعر بأنّها خاوية، ونتطلّع بشوقٍ كبير إلى ما يُعطينا حقًّا شعورًا بقيمتها ومعناها، ألا وهو حبّ الله لنا وفرحه بنا بوجه لا يحدّ ولا يوصف.
وإذا لم نكبت هذا الشّوق إلى الحياة الحقيقيّة فينا، وتتبّعنا اشتياقنا إلى الفرح، سنجد الله حاضرًا فيها، ساكنًا معنا، كنور عظيم، محبّة فياضة، مغفرة غامرة، كنز رائع لا يساويه مال العالم كلّه. سنجد أنفسنا عندما نجد الله يسكن بارتياح في قلبنا وحياتنا وتاريخنا. وعندئذ نعرف طعم الفرح الذي لا ينزعه أحدٌ منّا ولا يُدركه العالم، لأنّ الله معنا وفينا، وعندئذ سنحبّ ذواتنا ونقبل أنفسنا برضى وبهجة، ويمتلئ قلبنا بالحبّ تجاه جميع الناس.
يصبح لكلّ شيء فينا معنى وقيمة، كلّ ما عشناه وتعلّمناه، ما اختبرناه وقمنا به. حتّى أخطاؤنا وخطايانا تغرق في بحر النعمة، وكلّ شيء يتحوّل إلى خيرنا، لأنّنا نحبّ الربّ السّاكن في أرض حياتنا.
ولكنّنا لا نجد إلّا ما نبحث عنه، وإذا تتبّعنا نداء القلب المشتاق إلى الصِّدق والحقّ، إلى النّور والفرح، وإذا طلبنا من الله أن يُرشدنا إليه وأن ينير لنا الطريق، سنفاجئ بحضوره في حياتنا كاللؤلؤة الرَّائعة التي تشفي غليلنا وتكافئ بحثنا عن الخير والسَّلام.
عندئذٍ نكتشف أنّ كلّ ما نحن عليه وما نملك هو من الله، وأنّه مصدر كلّ حياة ونور وصلاح في حياتنا، من يعطينا الصِّحة والعلم والمال، الأحبّاء والأصدقاء، من يمنحنا القوّة للعمل والمثابرة، من يدعونا للدِّفاع عن العدالة والحرّيّة والمُساواة بين البشر.
في اختيارنا لله، لا يضيع شيء بل نربح كلّ شيء، لأنّه مصدر كلّ خير وحياة ونور فينا، هو الضّامن والمدافع عن حياتنا، هو معنا كالأب والأمّ يرعانا ويحمينا، يغذّينا ويشفينا، يحرّرنا ويغفر لنا، يبذل نفسه في كلّ لحظة من أجلنا. هو اللؤلؤة التي تشمل وتجمع كلّ لآلئ حياتنا، وفيه كلّ شيء يجد موقعه ومعناه، ويُوجّه لمجد الله وخير الناس. في الله نجد ذواتنا ونعرف طعم الحياة والفرح والهناء، ومعه نبني حياة إنسانيّة وأخويّة حقـَّة.
ويتطلّب حضور الله فينا استقبالاً واعيًّا، بمعنى أنّه مسؤوليّة لا تتحمّل السذاجة ولا الكسل ولا التراخي. في كلّ يوم، علينا أن نراجع حياتنا لنتبيّن كيف عشنا لقاءاتنا وعلاقاتنا وأعمالنا؟ وكيف التقينا الله في قلبنا وفي تعاملنا مع الآخرين؟ فثمرة حضور الله هي الارتياح الداخليّ، والطمأنينة، والثقة، والبساطة، والشّجاعة، والفرح والسَّلام.
وعلينا أن نتتبّع ثمار الرّوح القدس هذه في قلبنا لتترسَّخ حياتنا في الله، فنثبت فيه وهو فينا. وتعني اليقظة أيضًا الانتباه إلى ثمار الرّوح الشّرير الذي يلسع ويحزن ويثير القلق والاضطراب بدواعٍ كاذبة، فنتصدى له بكلّ حزم ولا نُصغي إلى أكاذيبه وترهاته.
إنّ الحياة كنز عظيم، بل أحلى وأروع ما يُمكن أن نختبره على الأرض، وهذا بفضل الله نبع الحياة والفرح الذي جعل سكناه في قلبنا. وتنمو الحياة وتزدهر بنعمة الرّوح القدس الذي يملأنا ويعلّمنا الدفاع عن حياتنا ضدّ حيَل العدوّ الكذاب، ومن ثمَ التجاوب مع النعمة التي تقودنا إلى الصِّدق والصلاح والخير، وتنمّي فينا المحبّة والإيمان والرّجاء.
إنّ الله هو ما يمنحنا أن نصبح بشرًا، وهو يعمل في كلّ وقت وكلّ شيء لتتحوّل الإنسانيّة إلى موضع ظهوره وتجلّيه، بفضل ما نحياه بصدق في عمق قلبنا، وما نتبادله مع الآخرين من مشاعر وما نتحمله معهم من أعباء وآمال ومشاريع. إنّ عالمنا البشريّ هو موضع إعلان الله القريب، المحبّ، والغافر، الذي يعمل في كلّ الأمور والعناصر كافة من أجل خير الإنسان وفرح قلبه.
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ