عندما يأتي يسوع في مجده، ويتوّجه الآب ملكًا على الكون بأكمله، يظهر في صورة الرَّاعي الصَّالح الذي يهتمُّ بغنمه، فيجمعها من جميع المواضع التي تكون قد تشتّتت فيها أيّام الغمّة والظلمة، فيطلب المفقودة، ويردّ الشّاردة، ويجبر المكسورة، ويقوّي الضعيفة، ويحفظ السّمينة والقويّة، ويرعاها جميعها بعدل (حز 34: 15-16).
مُلك يسوع هو فرح وحياة لكلّ مَن تشتاق حياته إلى نورٍ وسندٍ ودعم، وهو أبوّة غامرة ومحبّة تشمل الكلّ ولا تقصي أحدًا. مُلك يسوع هو في الحقيقة عطاء وسخاء يرويان عطش الناس جميعًا، وتواضع ووداعة يغلبان أصحاب السّلطة والجاه والقوّة، وهو حياة متدفّقة تبدّد ظلمة الموت إلى الأبد.
ويسوع الملك الرّاعي الصَّالح هو نفسه صورة الآب، "فما من أحد رأى الله، الإله الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يو1: 18)، فإذا كان يسوع هو الرَّاعي الصَّالح الذي يبذل حياته عن خرافه (يو10: 11)، فهو لا يعمل شيئًا من عنده بل الذي رأى الآب يعمله (يو5 : 19). ومتى أُخضع ليسوع كلّ شيء، الرئاسات والسِّيادات، وعندما يُبيد آخر عدوّ وهو الموت، "فحينئذ يخضع الابن نفسه لذاك الذي أخضع له كلّ شيء، ليكون الله كلّ شيء في كلّ شيء" (1قو 15: 28).
حياة يسوع هي تواصل ومشاركة مع الآب، حبّ لا نهائيّ، وهي في الوقت نفسه نور متدفّق يملأ الكلّ ويُضيء كلّ شيء. أحبّ يسوع الآب من كلّ قلبه وكلّ نفسه وكلّ قوته، فأحبّ خاصَّته الذين هم في العالم حتى المنتهى (يو13: 1). فطريق يسوع نحو الآب هو طريقه كخادم لأصدقائه وأحبّائه.
وأصدقاء يسوع وتلاميذه هم مَن يحملون في قلبهم المشاعر نفسها التي فيه، فهو أخلى نفسه وصار إنسانًا مُطيعًا حتى الموت، والموت على الصَّليب، ليرفع كلّ مَن وقعوا في براثن الألم والمرض، وفخاخ الخطيئة والموت (فل2: 7-11). إنّ رفقاء يسوع هم مَن أشبع جوعهم للفرح والكرامة، وجاء لنجدتهم في عطشهم للبرّ والصلاح، فصاروا على مثاله رعاة صالحين، يبحثون عن الضائع والمجروح، التائه والمسجون، المريض والفقير.
فمن قال إنّه يحبّ الله الذي لا يراه وهو لا يحبّ أخاه الذي يراه فهو كاذب (1يو4 :20)، و"ماذا ينفع الإنسان، يا إخوتي، أن يدّعي الإيمان من غير أعمال؟ أيقدر هذا الإيمان أن يخلّصه؟ فلو كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة لا قوت لهما، فماذا ينفع قولكما لهما: إذهبا بسلام! استدفئا واشبعا، إذا كنتم لا تعطونهما شيئًا ممّا يحتاج إليه الجسد؟" (يع2: 14-16).
سكن يسوع فينا وفي كلّ إنسان، ومن أراد أن يحبّ يسوع وأن يخدمه، أحبّه وخدمه في إخوته البشر المُحتاجين إلى التقدير والمساعدة والتعزّية. وصارت حياته عطاءً فيّاضًا وغير محدود، وتحوّل قلبه فأصبح مثل قلب يسوع، وديعًا ومتواضعًا، يسمع لأنين المتألّمين ويستقبل المتعبين وثقيليّ الأحمال (متّى11: 28-29).
إنّ تجسّد الله الكلمة ليس حدثًا عابرًا بل حقيقة حياتنا الأكيدة، وهو حاضر فيها كالخميرة في العجين (متّى13: 33)، حتى تمتلئ بنعمته جوانب وجودنا كافة، وتتحوّل حياتنا معه فتصبح على صورة الرَّاعي الصَّالح المحبّ لخرافه، وبالأخصّ تلك المتروكة والضائعة.
إنّ المحبّة تظهر في الأفعال أكثر منها في الأقوال، والإيمان بحضور يسوع في واقعنا الإنسانيّ لا يمكن أن يكون ترديدًا لكلمات طنانة فحسب. إذا آمنّا بأنّ يسوع يسكن فينا حقـًّا، يجمع ما انكسر من شخصنا، ويُداوي ما جُرح من تاريخنا، ويغفر ما اقترفناه من خطايا، وإذا اختبرنا أنّه الصَّديق والرَّفيق الذي يبحث دائمًا عن الضائع في حياتنا ليُعيده إلينا ويُصالحنا مع خبرات الفشل والألم والتيه التي مرّرنا بها، فعندئذٍ لا بُدَّ وأن يتجسّد إيماننا في أفعال محبّة واضحة وواقعيّة، حقيقيّة وفعّالة.
يكمن معنى حياتنا في المحبّة الأخويّة التي تشمل الكلّ بدون حدود ولا تمييز، ونحن لا نعرف أن نحبّ إن لم ندع يسوع يعلّمنا، ولا نقدر أن نكون بشرًا إلا بنعمته وروحه القدّوس. الله فقط بوسعه أن يمنحنا قلبًا من لحم قادرًا على التضامن والتعاطف، على الشّفقة والرّحمة، على المغفرة والمُصالحة.
فالله يريد أن يجمع الإنسانيّة كما يجمع الرَّاعي خِرافه، ولكنّه وضَع مستقبل عالمنا وبلادنا ومجتمعاتنا بين أيدينا، فإذا عرفنا الحبّ وعشناه، عرف الناس أنّ الله محبّة وفرح وحياة، ومَلك يسوع على القلوب وملأها بنور الأخوّة والإنسانيّة.
الأب نادر ميشيل اليسوعي.