يسوع، بإعلانه الاضطهادات التي تنتظر التلاميذ، يعلن سببها، وهو الهوية العميقة بينه وبين التلاميذ.
وبالتالي من الضروري إيجاد التصرف المناسب. لتحقيق ذلك، يستخدم الإنجيلي متى(متى10/ 26 -33) سلسلة من كلمات يسوع التي نجدها في إنجيل لوقا.
فيكرر ثلاثة مرات عبارة «لا تخافوا». هذا يعني أولاً، تجرأوا وتكلموا: «الذي أقوله لكم في الظلمات قولوه في وضح النهار».
ثانياً، ثقوا بالله: «لا تخافوا أنتم أثمن من العصافير جميعاً». وأخيراً، وفكروا بالحكم الأخير: «من شهد لي أمام الناس أشهد له أمام أبي الذي في السماوات». من الواضح أن الإنجيلي متى يريد أن يعطي الشجاعة لمسيحيي الجماعات الأولى التي يكتب إليها أولاً.
هؤلاء المسيحيين خائفين من الاضطهاد، بدون شك، ولكنهم مصدومين أكثر من كون البشرى السارة تبقى «مُحجبة»، «مَخفية»، وتُنقل في الخفاء، «من الفم إلى الأذن». اندهاش أمام كون موت وقيامة يسوع لم يأتِ بالسلام، لم يحقق السلام بين الناس، لم يحمل الفرح ولا عالم سعيد.
الحكمة الشعبية تقول بأن كل شيء سوف يُكشف، ويسوع أتى ليكشف «ما كان مخفياً منذ إنشاء العالم» (متى 13، 35). فعلى التلاميذ إذاً أن لا يصمتوا، إنما أن يعلنوا في وضح النهار ما قاله لهم يسوع، أن يعلنوه على السطوح، وفي الساحات، أفضل مكان لتحريك الجموع.
والمُضطهدين يجدون أنفسهم في تنازع بين خوفين. خوف من الجلادين وخوف من الله. فالجلاد ليس له سلطة سوى السلطة على الحياة الأرضية، على الجسد، بينما الله له الحياة الأبدية وبإمكان حكمه أن يُهلك الإنسان بكليته، جسداً وروحاً.
لكن في النهاية على الخوف أن يترك المكان للثقة: فالله الحاكم هو أبوكم يقول يسوع. والعصافير التي لا قيمة لها يهتم بها الله، فكم بالأحرى يهتم بالإنسان حتى بشعره. فالتلاميذ، وبالتالي نحن أيضاً، لهم الضمان بأنه، حتى في قتلهم، الله حاضر معهم، سيد الجسد والروح.
هذا الخوف جعل التلاميذ ينتظرون بصبر وبشيء من السذاجة المجيء الثاني المباشر للمسيح. والإنجيلي متى يقول لهم لا تخافوا أذا قتلوكم. فمن له السلطة على هدم الإنسان فعلاً لا يقوم بذلك، على العكس. ما يحدث في العالم لا يفلت من سيطرته، ولا يتجاوزه.
وعندما فهم المسيحيون بأن مجيء المسيح لن يكون فوري، فهموا أيضاً أن عليهم العمل دون تأخير وأن يعلنوا المسيح للعالم. باختصار عليهم العمل من أجل الملكوت. ولكن هناك تجربة أخرى تنتظرهم هنا وهي تخيل إمكانية بناء ملكوت السلام والسعادة في التاريخ، وأنه سيأتي يوم حيث لن يكون فيه لا حرب ولا صراع ولا خوف.
إنها تجربة الألفية الجديدة. هذا يعني أننا أمام رهان الرجاء المسيحي. عندما يقول لنا أناس نشطاء، مسيحيين أم لا، بأن الجهد الإنساني، السياسي والعلمي سيصل إلى تحقيق مجتمع بدون صراع، فَهُم يتشاركون الوهم نفسه.
إنه أمر من الصعب فهمه، إنه خط فاصل بين منحدرين. فمن جهة، نؤمن بأن موت وقيامة المسيح هما الاطار الذي يدور فيه كل التاريخ الإنساني ومن جهة أخرى، لحظة الموت والصراع وعدم العدالة، الخ. سيكونوا دائماً حاضرين بطريقة أو بأخرى.
ويمكننا تجاوز العديد من التناقضات، لكن هذا لن يمنع المرض ولا عدم عدالة حب بلا جواب، ولا الحوادث بمختلف أشكالها. فالرجاء المسيحي يُستحق، يأخذ كل قيمته، وكل أبعاده، على مستوى أكبر تعاسة. إنه يستمر حتى في هذه الحالة.
إنه قيامة، أي لا يضع الموت بين قوسين. فالعالم المسالم الذي يعلنه هذا الرجاء ليس في التاريخ. هناك القطع الذي يشكله الموت بين التاريخ والكون المُصالح. بالمقابل هناك منحدر الألفية الجديدة.
هناك من يقول بما أن السعادة والسلام هما خارج التاريخ، فلنكتفي إذن بالبقاء على قيد الحياة بأحسن شيء ممكن منتظرين ولنأخذ حصتنا من عدم العدالة بما أنها ستكون موجودة دائماً. هذا الموقف يعني النسيان بأن هذا العالم هو الذي سيدخل في عالم القيامة.
علينا نحن أن نعطيه، بكل قوانا وإمكانياتنا، شكله المستقبلي. إذا قمنا بذلك، تكون حريتنا أهلاً للمشاركة في تحقيق عالم مُصالح. وعلى هذا العالم علينا أن نتسق أو نصطف. علينا أن نهتدي إلى مستقبلنا.
واقعياً، في الاضطهاد، بعض الناس سيعلنون انتمائهم للمسيح، وآخرون سينكرون ذلك. وفي الحكم النهائي، هناك شيء من التوازي، حيث سيقوم يسوع بدور المحامي، المدافع: من يشهد له في الأرض، يشهد له يسوع أمام أبيه في الملكوت.
«ما مِن تِلميذٍ أَسمَى مِن مُعَلِّمِه، وما مِن خادِمٍ أَسمَى مِن سَيِّدِه. فَحَسْبُ التِّلميذِ أَن يَصيرَ كَمعلِّمِه والخادِمِ كَسيِّدِه، فإِذا لَقَّبوا ربَّ البَيتِ بِبَعلَ زَبول، فَما أَحْراهم بِأَن يَقولوا ذلك في أَهْلِ بَيتِه؟»(متى10/ 25 - 26).
فالدعوة إلى عدم الخوف والاستسلام لله الآب تُذكر أو تستدعي مصير يسوع نفسه. ممّا يعني أن الرسالة المسيحية قد تقود إلى اختبار الآلام أحياناً. ومن الواضح أن الإنجيلي متى يفكر بأعضاء جماعته، كنيسته حيث البعض منهم ارتدّوا عن الإيمان المسيحي، والبعض الآخر، بما فيهم واعظين، أعطوا شهادة باردة جداً.
باختصار، على هذا العالم أن يوضع بانسجام، وبتواطىء مع ما سيكون عليه. ونحن معه أيضاً. فالحب هو الذي يتجاوز وينتصر على الموت. فأعمالنا وتصرفاتنا المُشبعة من الحب، هذا ما يحقق القيامة.
الأب رامي الياس اليسوعي.