القيامة كما نعيشها اليوم

متفرقات

القيامة كما نعيشها اليوم

 

 

 

القيامة كما نعيشها اليوم

 

 

 

يحتفل المسيحيّون في أنحاء العالم قاطبة بأسبوع الآلام. أتوقّف مندهشًا اليوم أمام سؤال يطرح نفسه علينا بقوّة، أنحتفل بالآلام؟! أيُعقل هذا أن نحتفل بآلامنا؟! أو حتى بآلام شخصٍ آخر؟ لن أتطرّق في إجابتي عن هذه الأسئلة إلى أيّ أبعاد لاهوتيّة أو عقائديّة، فهذه لها أهلُها الذين هم أقدرُ مني في معالجة هذه الأمور، بل أعرض عليكم قراءتي الخاصّة جدًا والشخصيّة حول هذه الأسئلة التي تطرح نفسها عليّ بقوّة هذه الأيام. 

 

نعم... نحن نحتفل بالآلام، ولكن مِن بُعدٍ آخر، فلسنا مازوشيّين أو ساديّين. بل نحن كائنات عرفت الحبّ. هذا الحبّ الذي يذهب إلى المنتهى. هذا الحبّ الذي هو بلا شروط. حبّ مبنيّ على قرارٍ والتزام. قرار أخذه الله على عاتقه منذ أن شرع في الخلق. فبعد أن أتمّ الله خلق الكون كلّه، ورأى أن يخلق الإنسان على صورته ومثالِه وسلّطه على الكون، إنتهى بصرخة فرحٍ طفوليّةٍ بريئةٍ مِن أعماق قلبه، كلّ شيء حسن جدًا. واستراح الله في اليوم السابع.

 

كما لو أنّ الإنسان لم يرِد لله أن يسترح. وتعجّل في أن يكون هو بذاته مساويًّا لله. ولم يرد أن تكون شجرة الحياة هِبة مِن الله كما هي هِبة الحياة، فحاول اغتصابها عنوة وأكل منها قبل أن يحين وقت الأكل. فشوّه بفعلته هذه صورة الله واهبُ الحياة،  فوضع عوضًا عنها صورة إله يحبِس الحياة عن الإنسان، ويتسلّط عليه، إلهٌ يُقيّد حرّيته بَل ويَخافه. ومِن هنا صار الإنسان لله مصدر قلق. قلق على مصير هذا الكائن الذي أُعطي بحُبّ كلّ الحبّ. فأراد بذاته أن يغتصب ما ليس له. وهنا بدأت معاناة الله مع الإنسان.

 

من الطبيعي لمن يُحبّ أن يُعبّر عن ألمه جرّاء هذا الحبّ، فكان الغضب. الغضب الذي اختاره الإنسان لنفسه عندما شكّ في حبّ الله المُطلق واللامحدود له. قد يندهش المرء ويقول: هل الله يغضب، الله يثور؟!...مَعاذ الله.

 

خِبرتي معه تقول نعم، الله يغضب ويثور ويُعبّر عن غضبه مِمن يحبّ، وإن لم يكن هكذا فأيّ إله يشعر بنا هذا؟ أيّ إله لا همّ له سوى أن يرضيه الإنسان بالذبائح والمُحرقات والطاعة العمياء، دون أيّ علاقة شخصيّة تُحتّم على أطرافها تبادل كافة المشاعر والتعبير عنها والبوح بها بصورة سليمة صحيحة. ولكِن لننتبه: إنّ غضب الله ليس كغضب البشر، فالله غَضِب وفي عُمق غضبه كان أمام عينيه قراره والتزامه بحبّ الإنسان إلى أقصى الحدود. فكان الوعد بأنّ نَسل المرأة يَسحق رأس الحيّة. كان الوعد بالخلاص وعدم التخلي عن الإنسان رغم كلّ الظروف.

 

وها هو تاريخ شعب الله المختار، تاريخ الإنسان المقدّس، مليء بقرار الله في الإلتزام بحبّ الإنسان، ومسيرة الإنسان صعودًا وهبوطًا، في التجاوب مع هذا الحبّ. وبالرغم من كلّ ما سبق، فالله يخلق بطريقة مُبدعة وخلّاقة فرص حضوره للإنسان. وعلى الإنسان، كلّ إنسان منّا، أن يعيَ هذا الحضور ويتجاوب معه.

 

أمّا وأنّ الله لا يزال مُلتزماً بقراره، ولما رأى أن السعادة لا تعرف طريقها إلى الإنسان. فحتى في الفرح يشعر بالنقص، فتنقص الخمر ولا يعود للفرح معنى. يبلغ به الحبّ أقصى حدوده. فيصبح اللامحدود محدودًا، ويتجسّد عمانوئيل...الله معي. فالله معي وليس بعيدًا عني، الله على الأرض وفي عمق واقع حياتي ومحيطي وليس في الخارج. ألمَست هذا من قبل؟! فهو يولد معك، يلعب معك وأنت طفل، يدرس معك وأنت طالب، يضحك عندما تضحك، يبكي عندما تبكي، يكتئب عندما تحزن، ويُحبّ معك عندما تتحرّك مشاعرك وتحُبّ الآخر، ويتألّم بك وفيك ومعك عندما ترفض الآخر، فهو لا يكره ولا يعرف خطيئة.

 

وجاءت الساعة التي تألّم فيها مُنتهى الألم، نتيجةً طبيعيةً لحبّه منتهى الحبّ. جاء إلينا ولم نعرفه. تكلّم بكلمات الله فقلنا إنّ به شيطان. أعلن لنا عن شريعة الله التي هي الحبّ، حبّ الجميع، فلم نتمسّك سوى بقوانين صنعناها نحن كي نريح ضمائرنا ونتعامل بها مع إلهٍ مجهولٍ عنّا لا يعرف الحبّ بل شريعته المقايضة، بحسب ما تُعطي تأخذ!.

 

ولماذا الصليب؟ بالعودة إلى البِداية... إلى الأخوين الأوائل قايين وهابيل، الجميع يتذكّر قصّتهما جيّدًا، فحفظناها عن ظهر قلب منذ نعومة أظافرنا، ولكنّها تظلّ قصّة لو لم تدخل في واقعنا. هي ليست قصّة بالحقيقة بل واقعاً، واقع حياتنا كلّها. فكلّنا فينا رغبة في قتل الأخر، أقله معنويًا لو لم يكن حسيًّا. كلّنا لدينا شعور بالغيرة والمقارنة، إحساس بالظلم وإحساس بالذنب، ولكن كيف لنا أن نتخلّص مِن هذا الإحساس؟ ومَن الذي يُخلّصنا؟

 

إنّ الضحيّة هي الوحيدة القادرة على الغفران. وإن مات هابيل فجاء يسوع الضحيّة التي تغفر. الله يقبل أن يكون الضحيّة ليغفر لقايين ما فعله. ويقوم من بين الأموات ليُعطي الخلاص لهابيل. فعلى الصليب وفي قلب الألم غفران وخلاص. ومن هنا علينا أن نفرح. نفرح ونحتفل لأنّ الله يُخلّص الجميع، ليس فقط مجموعة بعَينها، بل الجميع الظالم والمظلوم، البارّ والأثيم. يتضامن الله مع الكلّ، مع الضحيّة دون أنّ يشعر بالظلم ومع القاتل بأن يغفر للذين قتلوه. أي يُعطي مستقبل للجميع، فيسوع يُخلّصنا بموته وقيامته. أليس هذا سببًا كافيًا كي نحتفل بالآلام! أليس بهذا أصبح للألم والموت والقيامة معنىً؟.

 

فلنفرح إذن الآن ونتذكّر أنّنا ما زِلنا نعيش هذه الأحداث اليوم، وليست هي قصّة قديمة قِدم التاريخ. فلننظر اليوم إلى واقعنا، إلى الغَليان الذي لا يَحدّه وَصْف. ألا نجِد أمام عيوننا قايين وهابيل القرن الحادي والعشرين؟ ألا نجد داخلنا آدم القديم؟!...إنها ليست قصّة بل واقع وحقيقة مُعاشة.

 

الحكّام في كلّ مكان يَضعون أنفسهم مَقام الله، وكأنّهم هم الذين خلقوا مَن يَحكمونهم، ويستَبدلون بعدل الله، شريعة الغاب، فيتحوّل الحاكم مِن إنسان على صورة الله ومثاله، إلى حيوانٍ تُسيّره غرائزه وتحكمه الشهوة والسلطة وانتهاز الفرص للإنقضاض على الغَنيمة والفَتك بها وافتراسها افتراسًا.

 

وجاء أصحاب المصالح والنفوذ، ذويّ المال والعقارات، أمام الطبقة الكادحة مِن المواطنين الذين يقتاتون الفتات، ولا يملكون سوى قوت يومهم. لتبدأ مرة أخرى علاقة قاين وهابيل. الضحيّة والقاتل. ولن نذهب لأبعد من هذا بل وداخل كلّ واحد منا أليس هناك الجميع؟ آدم وحوّاء، قاين وهابيل؟ أليس كلّ فرد فينا داخله صراع الضحيّة والظالم، القاتل والمقتول؟!

 

ها هو يسوع يشعر بِنا اليوم، يأتي كيّ يُصالح الجميع مع الله. جاء طواعيّة وأحبّنا مُنتهى الحبّ، ويؤكّد لنا حبّ الله لكلّ شخصٍ فينا بعيوبِه قَبل ميزاته، كي يقول لنا إنّ حبّي لكم اليوم هو قرار منذ البدء وإلى الأبد، والتزامي فيه نهائي وأمين إلى أبد الأبدين... فهلمّوا نفرح ونبتهج ونَحتفل لأنّ الله محبّة.

 

الأب ماريو بولس اليسوعي