«السلام عليكم». فكيف يمكننا أن نفهم هذا الكلام؟

متفرقات

«السلام عليكم». فكيف يمكننا أن نفهم هذا الكلام؟

 

 

 

«السلام عليكم». فكيف يمكننا أن نفهم هذا الكلام؟

 

 

في إنجيل يوحنّا (20/ 19-23) يكرّر المسيح ثلاث مرّات لتلاميذه «السّلام عليكم». ولكن حتّى اليوم هناك بلدان عديدة، منها بلدنا نحن، تتخبط بالعنف والحرب ولا تعرف كيف تخرج من دوار القتل والاجرام بمختلف أشكاله.

 

 موضوع السّلام نراه في بداية العهد الجديد حيث تنشد الملائكة لدى ولادة الطفل يسوع: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام للناس فإنهم أهل رضاه»، وفي ختام الإنجيل مع نصّ اليوم: «السّلام عليكم». فكيف يمكننا أن نفهم هذا الكلام؟ ولماذا لم يحقـِّق المسيح السّلام في العالم؟

 

 المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام، هذه العبارة تعني أنّ مجد الله هو سلام الناس، وأنّ السّلام يأتي من الله، ويتحقـَّق في محبّي الله: «أهل رضاه»، أي في كلّ إنسان يتّـقي الله. إذن مصدر السّلام الحقيقيّ هو الله، وخارجًا عنه لا يُمكن للإنسان أن يعيش بسلام حقيقيّ.

 

على ما يبدو أنّ عدد اتفاقيّات السّلام في العالم منذ 4000 سنة 134 اتفاقية. فأين هو هذا السّلام؟ عندما نتكلّم عن السّلام مع الله، أو عن جماعة مسالمة، أو عن إنسان يعيش بسلام مع ذاته، فنحن نتكلّم عن أمر آخر، مختلف تمامًا.  نتكلّم عن أمرٍ أكثر إيجابيّة من مجرّد غياب الصّراع.

 

 في الكتاب المقدّس، هدف العدل هو بناء السّلام حيث توقـَّف. هذا المفهوم لا يكتفي باحترام القوانين والقواعد، مهما كانت مهمّة وأساسيّة. مفهوم العدل في الكتاب المقدّس يشدّد على تحوّل الأشخاص، والعلاقات، دليل عمل الله فيهم، لكي يتمكّنوا من بناء السّلام. فأن يكون الله مصدر وأساس السّلام، هذا لا يلغي مسؤوليتنا في تحقيقه من خلال علاقتنا مع الله ومع الآخرين.

 

 في العهد القديم، مثلاً، يأمر الله الإنسان بالاهتمام بالفقراء وأن يحبّ أعدائه، وأن يعوّض للذين أساء إليهم. يبقى السؤال: لماذا يصعب على البشر أن يعيشوا بسلام؟ لماذا لا يتحقـّق السّلام في العالم؟

 لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يحقـّق ذاته، إنسانيّته لوحده، فهو بحاجة إلى الآخر، بالمقابل، لا وجود للإنسان خارجًا عن الثقافة أو الحضارة التي عاش وتربّى وكبر فيها. وكلّ ثقافة لها قيمها وعاداتها وتقاليدها ومفهومها للعلاقات، والتي تختلف عن أيّة حضارة أُخرى، وفي الوقت نفسه هناك عوامل مشتركة فيما بينها مهما كان الاختلاف.

 

 وهنا تكمن إحدى المشاكل الكبرى في الإنسانيّة: عندما تنغلق الثقافة على ذاتها، يتحوّل هذا الاختلاف إلى صراع، صراع البقاء إن صحّ التعبير. لأنّها تعيش ذاتها في خطر مقابل الثقافات الأخرى. بدون هذا التأصل في الثقافة المحدّدة، لا يمكن للإنسان أن ينمو بالشّكل الصّحيح والسّليم.

 

 ويسوع بتجسده، لم يكتسب عائلة إنسانيّة فقط، بل أيضاً حضارة ووطن. إنّه دائمًا يسوع الناصريّ. فإذا كان من المهمّ تقدير قيم الحضارة المحليّة، فمن الطبيعيّ بالمقابل، أن نعي بأن كلّ حضارة تحتوي بالضرورة على حدود.

 

 ولكي لا يتحوّل الانتماء الثقافي إلى إنغلاق، لا بدّ من الانفتاح على الثقافات الأخرى بدون أحكام سلبيّة مسبقة، والوعي بوجود عناصر مشتركة مهمّة فيما بينها. والكنيسة مقتنعة تمامًا بأنّه «وراء كلّ التغيرات، هناك أمور لا تتغير أبدًا».

 

لذلك علينا أن نفهم هذا التنوع الثقافي والحضاريّ على ضوء وحدة التنّوع الإنسانيّ. فجميع النّاس مخلوقين من الله وبالتالي هم أبناء الله بدون أي تمييز. والآن إذا عدنا إلى الكتاب المقدّس، ماذا يقول لنا عن هذا الموضوع؟

 

 في البداية كانت الإنسانيّة نباتيّة، إن صحّ التّعبير، لم يكن الإنسان بحاجة للقتل ليأكل إلى أن أتت الخطيئة. فدخل القتل إليها. فالخطيئة تُبعد الإنسان عن مصدر السَّلام، الله، فتحيي فيه الرّغبة في أن يكون الكلّ «تصبحان كالآلهة»، أي إلغاء الآخر.

 

 نتيجة الخطيئة هي أيضًا ولادة الغيرة والحسد التي تظهر في رواية قايين وهابيل. قايين قتل أخاه حسدًا، والإنجيل يقول لنا بأنّ يسوع قُتِل حسدًا ونحن نعلم بأنّ الحسد بطريقة أو بأخرى يؤدّي إلى القتل. رواية قايين وهابيل تقول لنا، مع الأسف، بأنّ البشريّة مبنيّة على الكذب والقتل. وكما نعلم، لا يزال هذا الأمر مستمرّ حتّى الآن.

 

 بالمقابل، يقول لنا الكتاب المقدّس، بأنّ الله سلّم الكون للإنسان، ليكون «مدير أعمال الله» إن صحّ التّعبير. والمشكلة أنّه يريد أن يكون المالك. من هنا ينشأ الصّراع الدّائم في البشريّة وتُخلق الإنشقاقات والإنقسامات بين البشر ممّا يمنعهم من العيش في الطمأنينة والسّلام:

 

 «وأَمَّا أَعمالُ الجَسَد فإِنَّها ظاهِرَة، وهي الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور والعَداوات والخِصامُ والحَسَدُ والسُّخطُ والمُنازَعاتُ والشِّقاقُ والتَّشيُّع» (غلا 5، 19 - 20).

 

لكن علينا أن لا ننسى أنّه في أعماق الإنسان، هناك الرّغبة في أن يعيش بسلام. هذه الرّغبة مشوّهة ومشوشة بسبب الخطيئة، والمجتمع والتربية والماضي الشّخصيّ:

 

 «أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإيمان والوَداعةُ والعَفاف. وهذهِ الأَشياءُ ما مِن شَريعةٍ تتَعرَّضُ لَها» (غلا 5، 22 - 23). ممّا يعني أنّ ثمر الرّوح هو من طبيعة الإنسان ولهذا السبب ما من شريعة تتعرّض له. ما من شريعة تمنع التصرف الذي يسمح له بالعيش بسلام.

 

 فالإنسان، على الصّعيد الفرديّ، الشخصيّ يعيش صراع بين رغبته في السّلام وميله للتملّك والتسلّط وليكون الكلّ. وبالتالي، مجمل الصّراعات التي تعيشها الإنسانيّة، أيّاً كان شكل هذه الصّراعات فهي عبارة عن انعكاس للصّراع الشخصيّ الدّائم في الإنسان. فلكي يتمّ السّلام، لا بدّ من زرعه وتحقيقه أوّلاً في قلوبنا، في داخلنا والباقي يأتي تحصيل حاصل كما نقول بالعاميّة.

 

 فإذا كان المسيح يقول لنا: «السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ» (يو 14، 27). فهذا يعني أنّ ما من سلام حقيقيّ خارجًا عن المسيح. إنّه عطيّة القائم من بين الأموات. وثمرة الرّوح القدس. ويجد جذوره في الله.

 

 في النهاية أقول لا يحقّ لنا على ضوء هذا الكلام أن نقول ماذا يمكنني أن أصنع من أجل تحقيق السّلام في العالم. فالمهم هو أن نزرع السّلام في قلبنا من خلال العلاقة مع الله والصّلاة. فالله هو الوحيد الذي يغيّر قلوب البشر ويحقـّق السّلام في قلوبهم.

 

 والمسيح حقـّق السّلام بدمه. على الصّليب وحّد البشر من خلال كشفه لشرِّهم ووضعهم أمام هذا الشرّ: «سينظرون إلى من طعنوا» (19، 37). على الصّليب انتصر يسوع على الخطيئة والشرّ وعلى آخر عدوّ لنا ألا وهو الموت. بموته صالح البشر ووحّدهم.

 

 فإذا أردنا أن نسعى للسّلام، علينا أن نحمل الصّليب، أي أن نموت عن أنانيتنا ونزعتنا للتسلّط ونبذ المختلفين عنّا ليعمّ السّلام فيما بيننا. وهذا من ثمار عمل الرّوح فينا. فنحن، لا يمكننا تحقيقه لوحدنا. «خذوا الرّوح القدس، من غفرتم لهم خطاياهم غُفرت لهم». فلا سلام بدون مغفرة.

 

 

 

الأب رامي الياس اليسوعي.