عطش الله وعطش الإنسان
إنّ الذي طلب من السّامريّة: "أعطني لأشرب" (يو 4: 7)، والذي قبل أن يسلم الرّوح على الصّليب صرخ "أنا عطشان" (يو 19/ 28)، ها هو اليوم في آخر أيّام عيد المظال، واقفًا، ليطلق نداءه: "إن عَطِشَ أَحَدٌ، فَليَأتِ إِلَيَّ وَيَشرَب" (يو 7/ 37).
الله عطشان ليروي عطش الإنسان؛ الله عطشان لكي أقدّم له عطشي؛ وهو عطشان ليفجِّر من رحمه ينابيع الماء الحيّ، ليساعدنا على عبور البحر وإخصاب أرضنا القاحلة وليحرّرنا من عبوديّتنا. وها هو يوحنّا، الشّاهد المحظوظ لصرخة: "أنا عطشان" ولطعنة القلب الذي خرج منه دمّ وماء، يشرح لنا صرخة معلّمه، في آخر أيّام عيد المظال: "إِنَّما قالَ هَذا عَنِ ٱلرّوحِ ٱلَّذي كانَ ٱلمُؤمِنونَ بِهِ مُزمِعينَ أَن يَقبَلوه" (يو 7: 39)
نجد أنّ عطش الله وعطش الإنسان قد ارتويا يوم العنصرة. كانت العنصرة ترمز إلى عيد العهد بين الله وشعبه في سيناء؛ وهو اليوم ذاته الذي اختاره يسوع لكي ترى كنيسته النّور، لكي يُعطي روحه ونفحته وألسنته الناريّة، لكي يعلن "فرح الإنجيل" وليجعل رسله شهودًا "بلا حدود" لمحبّة الله.
الرّوح القدس: ريح - نار - ألسنة.
لننظر إلى العلامات التي يُعطيها الله لهذه "القوّة من علُ" والتي انتظرها التلاميذ، بقلبٍ واحدٍ، مواظبين على الصّلاة، وتحت رعاية مريم العذراء، في العلّيَّة، منذ صعود المسيح إلى السّماء.
كان اليوم التاسع، حين حلّت عليهم القوّة التي وُعدوا بها على شكل ريح قويّة، كأنّها خلقٌ جديد، كأنّها اليوم الذي نفخ فيه الله في آدم نفحة حياة (تك 2: 7). كما أنّ يسوع كان قد نفخ في وجه الرّسل يوم قيامته قائلاً لهم: "خذوا الرّوح القدس" (يو 20 :22).
يأتي الله على شكل نفحة خفيفة، كنسمةٍ عليلة (1 ملوك 19: 12)، كريحٍ تهبّ حيث ما تشاء، كقوةٍ لا نعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. "هكذا كلّ من يولد من الرّوح" (يو 3: 7). يستعيد الأشخاص نفحتهم ويتمكنون من التنفّس فيصبحوا قادرين على الذهاب من جديد ونفخ روح جديدة في العالم.
ظهرت لهم ألسنة كأنّها من نار. ألم يقل يسوع: "جئت لألقي نارًا على الأرض، وكم أتمنّى أن تكون اشتعلت" (لو 12 :49)... نارٌ تضيء، نارٌ تبدّد الظلامات وتطهّر كلّ وصمة عار. قال غاندي: "مهما كان قلب الإنسان قاسيًا، تذوب هذه القساوة في نار الحبّ. وإذا لم تذب، فهذا يعني أنّ نار الحبّ لم تكن كافيةً."
يجب أن تكون قلوبنا متّقدة (لوقا 24 :32). إنّ الذي يحيا بالرّوح لا يمكن أن يكون فاترًا. "سأتقيّؤك من فمي لأنّك فاتر" (رؤ 3: 16). نار على شكل ألسنة، تستقر على رأس كلّ واحدٍ منهم، حتى لا يستطيعوا أن يقولوا مثل موسى : "أنا بطيء النطق وثقيل اللسان" (خروج 4: 10)، أو مثل إرميا: "آه، أيّها السيّد الرَّبّ! أنا لا أعرف أن أتكلّم لأنّي صغير" (ارميا 1: 6).
على نقيض روح التكبّر التي قسّت قلوب سكان بابل وجعلتهم لا يفهمون بعضهم (تك 11 :7-9)، تأتي العنصرة لتشفي انقسام الشعوب، ولتساعدنا على التغلّب على سوء الفهم لدينا... لأنّ من الشعوب الستة عشر المذكورة في النص" لِأَنَّ كُلَّ واحِدٍ كانَ يَسمَعُهُم يَنطِقونَ بِلُغَتِهِ" (اعمال 2: 5-6). يعيد الله بناء العهد يوم العنصرة.
"أنا نور العالم".
كما وقف يسوع في آخر أيّام عيد المظال وصرخ: "إن عطش أحد، فليجئ إليّ ليشرب"، هكذا لا ينفك البابا فرنسيس يعلن: "مع المسيح يولد الفرح ويتجدّد دائمًا...وتتدفق الحياة بالروح من قلب المسيح القائم من بين الأموات" (فرح الإنجيل 1 و5).
لتكن العنصرة نبع فرح للكنيسة وللعالم أجمع، لتكن روحًا جديدة، نارًا تضيء، لغاتٍ تُفهم وقادرة على بناء وحدة في عالمٍ أفضل، يُضيئها روح المسيح، الذي ينهي إنجيل اليوم بهذه العبارة المليئة بالأمل: "أنا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظلام" (يو 8: 12).
الأب هانس بوتمان اليسوعيّ